جملة من الأسئلة والتحديات يطرحها الربيع العربي الذي ما زال في بدايته: هل نشهد انطلاق الموجة الديموقراطية الرابعة في العالم وهل سيكون التغيير أشبه بما حصل في أوروبا الشرقية عام 1989 أم في أوروبا الثورة الفرنسية. في الحالة الأولى كان التغيير سلساً بعد ان رفع الضغط الخارجي السوفياتي عن مجتمعات متقدمة نسبياً وتواقة للتغيير في حين انه في الحالة الثانية كان التغيير داخلياً وعنفياً من المجتمع. فالحالة العربية تحمل أوجه شبه مع عملية التغيير التي أطلقتها الثورة الفرنسية أكثر من عملية التغيير التي أطلقها سقوط جدار برلين. الربيع العربي أطلق «ثلاثية» سنشهد إرهاصاتها في المرحلة المقبلة: اولها «عودة السياسة» بعد فتح الفضاء السياسي على مصراعيه حيث كان مغلقاً او شبه مغلق وحيث كانت السياسة عملية اصطناعية معلبة وتزايد الضغوطات لفتح فضاءات سياسية او توسيع اخرى ما زالت تعاني من الاقفال او شبه الاقفال. وثانياً، «ثأر المجتمع» الذي كان مقيداً ومصادراً من السلطة وانطلاق حراك يعبر عن حيوية كانت مكبوتة وتعزيز مجتمع مدني بمؤسساته المختلفة او بداية نشوء هذا المجتمع في حالات معينة واحياؤه في حالات اخرى: بوادر ذلك تعزيز أو ولادة لهيئات وادوار ووظائف تمثل مختلف القطاعات والمصالح والحساسيات في المجتمعات المعنية. وثالث العناصر يمكن توصيفه بتحدي الإيديولوجيات الكبرى وتحديداً تلك التي تمثل الإسلام السياسي التي كانت في موقع المهمش والمضطهَد: تحدي الانتقال من مرحلة الشعارات والعناوين الكبرى الى مرحلة الانخراط في السياسة العملية والمصالحة مع السلطة والمشاركة فيها والتعامل مع أطراف وقوى خارجية كانت هنالك قطيعة أساسية معها شكلت مصدراً رئيسياً للشرعيات السياسية لهذه القوى. الربيع العربي ايضاً اسقط نظرية الاستثناء العربي التي تعبر عن نظرة ثقافوية تبسيطية تعتبر العالم العربي ذات مناعة حيال التغيير والتطور لأسباب تعود لخصوصياته الثقافية كما يقولون. سؤال آخر يطرح بقوة ويتعلق بالعنوان الديموقراطي وهو من العناوين الأكثر جاذبية ومشروعية. فالديموقراطية ليست فقط وسيلة تعبير وآلية تغيير لكنها وبالأخص ثقافة تجري بلورتها وتقوم على منظومة قيم من أهمها مبدأ تداول السلطة وحق الاختلاف وصراع الأفكار وتنافس الرؤى والبرامج واحترام الأقلية وبالأخص عدم ادعاء البعض امتلاك تفوق اخلاقي في مرجعياته العقائدية او السياسية. الديموقراطية او بالأصح عملية الدمقرطة تقوم على تعزيز مفهوم المواطنة الذي هو شرط المساواة الحقيقية في الديموقراطية. لكن هذه ايضاً لا تقوم في فراغ بل تستدعي تعزيز دولة القانون والمؤسسات ونظام المساءلة ودفع عملية التنمية الشاملة المترابطة الجوانب من سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية، وايلاء اهمية قصوى للإنماء المتوازن قطاعياً ومناطقياً في عالم عربي تنتمي دوله الى العالم النامي ولو انها تعيش في مراحل مختلفة من النمو. تعزيز الديموقراطية يفترض أيضاً ايلاء أولوية لمعالجة ما نسميه بصدام الديموغرافيا والتنمية الفاشلة. صدام كان من المسببات الأساسية لانطلاق الثورات العربية: ديموغرافيا شبابية تريد حياة كريمة وتريد توفير فرص للعمل. فالخيار في لحظة التحولات الجارية ليس بين السياسة والاقتصاد: نتمتع بحرية النقاش ونعيش في الفقر او نسد جوعنا ومعه نسد فمنا الذي كان شعاراً لنظرية اثبتت محدوديتها تقول إن التنمية الناجحة والمستمرة يمكن ان تقوم بها الدول السلطوية. فالديموقراطية بقدر ما هي حق وضرورة للإبداع والخلق والتنمية بقدر ما هي في حاجة الى هذه القاعدة القانونية والاقتصادية والثقافية للاستمرار والتطور. من دون ذلك ستؤدي الحرية الى الشعبوية وبالتالي الى حالة مناهضة للديموقراطية والأمثلة على ذلك كثيرة. على رغم ان هنالك الكثير من المشترك في الهموم والاهتمامات بين ابناء «البيت العربي» بقدر ما يجب التنبه الى الخصوصيات المجتمعية التي تميز دولة عن أخرى مثل درجة تطور البنى والمؤسسات القائمة ودرجة التماسك الاجتماعي، وطبيعة الجغرافيا السياسية للدولة ودرجة انكشافها للتأثير والتأثر بين الخارج والداخل. هذه عناصر تنعكس في شكل كبير على ديناميات التغيير العربية. وبقدر ما تجب الاستفادة من تجارب الغير القريب والبعيد واستخلاص الدروس والعبر منها بقدر ما يجب التنبه بأنه لا توجد وصفات جاهزة للتغيير يمكن تعميمها واسقاطها على الحالات العربية من خارج الزمان والمكان. عمليتان اساسيتان انطلقتا مع الثورة التونسية في خضم التمخضات الجارية والتحولات الحاصلة والحوارات الدائرة ولو بأشكال مختلفة من سلمية وصدامية من سياسية وعنفية في العالم العربي الذي يبدو وكأنه بمثابة ورشة بناء كبيرة. العملية الأولى: يمكن وصفها بعملية انتهاء الجمهوريات الوراثية التي لم تعد تستطيع ان تستند الى شرعيات قديمة بهتت أو ابتعدت في التاريخ أو اهتزت او سقطت مثل شرعيات التحرير والاستقلال والشرعيات العقائدية التي حملتها العديد من الانقلابات فتآكلت شرعية تلك السلطات حينما تحولت الى سياسات التوريث. العملية الثانية تتعلق بالأنظمة التي تمتلك شرعيات تقليدية راسخة ومستمرة ولكنها ستعيش ما يمكن وصفه بمخاض دسترة هذه الأنظمة او احداث مزيد من تقييد مؤسسي للسلطة فيها. ويبقى السؤال مطروحاً حول ما اذا كان العالم العربي يشهد اليوم بداية النهضة العربية الثانية بعد «قرن للاشيء»، وهو عنوان الكتاب الذي وضعه جان لاكوتير وجيرار خوري وغسان تويني في تقديم قراءة للقرن العربي الذي مضى. * كاتب سياسي لبناني