لم تلق القمة العربية الثلاثية التي عقدها الرئيسان المصري والفلسطيني والعاهل الأردنيبالقاهرة، قبل أسبوعين، أصداءً عربية تذكر، لا تأييداً ولا تنديداً. وهي كذلك لم تُستجب دعوتها إلى الدولة العبرية بالعودة عن توسيع دائرة القدس الإدارية وضم المستوطنات التي يبعد بعضها من المدينة أكثر من خمسة كلم، ويقيم في بعضها خمسة وعشرون ألف مستوطن، إلى القدس نفسها - الأمر الذي يغلِّب عليها السكان الإسرائيليين على نحو قاطع، ويغيِّر مخططها التاريخي والجغرافي عن هيئته المعروفة. وليس ضعف الصدى العربي، على رغم انعقاد القمة من البلدان الثلاثة التي تقيم أوثق علاقات بإسرائيل، مختارة مثل مصر والأردن أو مكرهة مثل الفلسطينيين، رداً على الإجراء السياسي والإداري المتعلق بالقدس، مستغرباً. فإلى الإجماع على ضيق المسالك المتاحة إلى الضغط على رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتانياهو، وعلى نفاد الوسائل إلى هذا الضغط، والتعويل على السياسة الأميركية المقيدة والمكفوفة في هذا السبيل، تنشغل الدول العربية بمشكلات ثقيلة لا يخفف من وطأتها كونها مشكلات مزمنةً أو تظاهرات ظرفية لمشكلات مزمنة. فالأسبوع الذي عقدت القمة "المصغرة" في خاتمته، والأيام القليلة التي تلته، شهدا رزمة من المشكلات الداخلية لم تعف عن بلد عربي واحد تقريباً. فسورية تمر في مخاض سياسي وأزمة اقتصادية مزمنين، توالت القرائن عليهما في غضون أقل من أسبوعين: من إطلاق سراح بعض مسجوني الرأي السياسي إلى الترقيات وإنهاء الخدمات تمهيداً ربما لبت مسألة الخلافة العصية، على ما جاء على لسان الرئيس السوري عشية زيارته باريس، مروراً بتجدد الكلام على توحيد سعر صرف العملة الأجنبية في الحسابات والمعاملات، وعلى السوق المالية، بعد ثماني سنوات كاملة على إجراءات الانفتاح الخجولة. وليس الكشف عن الشبكة اللبنانية و"القواتية" المفترضة، والمتهمة بأعمال إرهابية معظمها استهدف السوريين أو القوات السورية أو الأمن "السوري"، دليلاً على استقرار الأحوال اللبنانية الداخلية بعهدة السياسة السورية وحدها منذ عقد مديد من السنوات. وإذا استثني العراق الممزق والنازف، وهو مستثنى من الدعوة إلى القمة على رغم الوعود السورية القاطعة والعابرة، واستثنيت ليبيا المعزولة، لا تنهض حوادث مأرب والجوف وذيولها في اليمن، ولا تفجيرات الخرطوم في "عيد" انقلاب "الإنقاذ" واستيلاء جبهته على حكم السودان وتفاقم المجاعة في الجنوب، ولا خلاف البحرين وقطر على جزر حوار، ولا اضطرابات الجزائر القومية والأهلية واللغوية فوق اضطراباتها الدموية و"الدينية" - لا تنهض هذه الأمور كلها، ولا غيرها مثلها، دليلاً قاطعاً على علو مكانة السياسة الفلسطينية في هذه الدول من مجمل سياساتها العربية والإقليمية، ولا على قدرة هذه الدول على معالجة المسألة الفلسطينية في وضعها الراهن المعالجة الناجعة. فالمعالجة العربية الناجعة، على ما صار واضحاً منذ مطلع العقد، لا بد لها من أن تتوسل بوسائل إسرئيلية داخلية أو بوسائل دولية لا ينكرها المجتمع الدولي عموماً ولا الكتل والقوى السياسية خصوصاً. والوسيلة الإسرائيلية الفضلى - على ما ظهر جلياً في 1993 وفي 1995، وكان من المحتمل أن يظهر في عام 1996 لولا اغتيال إسحق رابين، و"بطولات" منظمة "الجهاد" وحركة "حماس" و"حزب الله" اللبناني - هي تولّي تحالف حزب العمل واليسار السلطة في إسرائيل ولا يطعن في هذا الرأي تولي الليكود تنفيذ الإنسحاب الإسرائيلي من سيناء قبل نحو العقدين، في ضوء اختلاف دلالة سيناء ودلالة الضفة الغربية من وجهة النظر اليهودية الإسرائيلية. ويبدو اليوم، غداة سنتين مضتا على تصريف السيد نتانياهو الأعمال وعلى القمة العربية في القاهرة، أن سبل استدراج رئيس الحكومة الإسرائيلية إلى التزام الإنسحاب من بعض الضفة الغربية ال1.13 في المئة العتيدة لا يعلَن عن تمهيدها وفتحها، على ما صنعت السيدة أولبرايت في منتصف الأسبوع الأسبق وتابَعها السيد موردخاي وزير الدفاع الإسرائيلي عليه، حتى "يأسف" الاجتماع الوزاري المصغر للعراقيل التي ما زالت تحول دون سلوكها. ويتأخر البت في المسألة إلى أجل غير معلوم، ويبقى غير معلوم على رغم الإعلان عن مفاوضات "مباشرة" بين السلطة الفلسطينية والحكومة الإسرائيلية. ولا يثني نتانياهو عن تنكره لعهود سلفيه، رابين وبيريز، لا تهمة رئيس الدولة عازر وايزمان له بالمشي على طريق الحرب، ودعوته إلى انتخابات مبكرة، ولا مخاطبة إيهود باراك، رئيس "العمل"، إياه سائلاً ومجيباً: "بمن يمكنك الإتصال؟"، ولا انحراف كبار موظفي الديبلوماسية الأميركية اليهود بحسب شارانسكي، وزير الصناعة عنه. وعادت الديبلوماسية الأوروبية، أو بعض أصواتها الجهورية مثل فرنسا، عن سياسة التنديد والتشهير، على مثال وصف السيد هوبير فيدرين بعض أعمال نتانياهو ب"الكارثة". واقتصرت سياسة "الردع"، الأوروبية كذلك، على إلغاء الإعفاءات الضريبية عن الصادرات الإسرائيلية من سلع مستوطنات الضفة الغربية الزراعية إليها. أما السياسة الروسية فرجعت إلى الصمت الذي خيم عليها عشية جولة السيد بريماكوف في الشرق الأوسط قبل أشهر خلت. ولم تحرز قرارات قمة القاهرة، منذ سنتين، النجاح المأمول، أي الذي أمل فيه من صاغوا قرار الدعوة إلى المقاطعة وإلى قطع كل العلاقات، المتواضعة، مع الدولة العبرية. بل إن السياسة السورية، وهي تصدرت صوغ مقررات القاهرة، اكتفت بالتذكير بهذه المقررات تعليقاً على القمة المثلثة الأخيرة، وتركت التنديد الحاد بمن لم يلتزموها فقصرت غير الملتزمين على الأردن والسلطة الفلسطينية، وهم فوق هذا العدد، وتنصلت من التنسيق مع القاهرة في شأن القمة. واستمرت السياسة السورية نفسها على الحؤول دون مفاوضة إسرائيلية ولبنانية على القرار 425 الذي أغفلت قمة القاهرة الأخيرة الإشارة إليه، تدليلاً على مكانتها في لبنان، وتثبيتاً لهذه المكانة، أكثر منه إحراجاً لنتانياهو أو قطعاً عليه طريق انكفاء وتراجع. وماشت السياسة الأميركية السياسة السورية على هذا القصد من غير معاناة أو مكابدة خلقية حادة. فلبنان العروبي، أو "السوري"، أصبح الوصلة التي تصل إسرائيل وسورية، على وجهين مختلفين، بحل "شامل" في الشرق الأوسط. فإذا تحررت هذه العروة خسرت السياسات الدولية في المنطقة، على ما تحسب وتتوهم، الباعث على سعي إسرائيل في حل عام يشمل سورية، وخسرت الداعي الذي يحمل السياسة السورية على المشاركة الإيجابية بل التورط في المفاوضة على حلول للمشكلات الإقليمية المستعصية، ويحملها تالياً على الخروج من سكونها وجمودها. فإذا لم ينشأ في إسرائيل نفسها تيار رأي عريض يناهض سياسة نتانياهو الفلسطينية، في المرتبة الأولى، ويُحِل محل الخليط السياسي الحاكم وزارةً متجانسة لا يقيد بعضها بعضاً على ما هي الحال اليوم، لا مناص من انتظار انتخابات العام ألفين، على رجاء خلافة عمالية ويسارية لليكود وحلفائه. لكن إذا قدر نتانياهو على البقاء في الحكم إلى موعد الإنتخابات القادمة، على رغم مماطلته في الانسحاب أو انسحابه من أقل من عشرة في المئة من أراضي الضفة المحتلة، وإذا تمكن من لجم "حماس" و"الجهاد" إما مباشرة أو بالواسطة على ما هي الحال اليوم، ورضخ الفلسطينيون تحت الاحتلال لسياسة التخويف باحتلال أراضي السلطة الذاتية ولسياسة التفريق التي يسوسهم الرجل بهما، ورهن السوريون تحرير الجولان بإنجازات "حزب الله" في جنوبلبنان، وأقام الأميركيون والأوروبيون على تحفظهم عن سياسة نتانياهو ولم يتجاوزوا التحفظ، فلماذا يستبدله الإسرائيليون بإيهود باراك أو بأمنون شاحاك؟ والتعويل على الزيارة الرئاسية السورية إلى فرنسا علاجاً، أو مقدمة لعلاج ذيول إخفاق عملية السلام، ينطوي على مبالغة لم تترفع عنها كثير من السياسات العربية في ما مضى، ولا تزال تنزلق إليها. فلا الزائر مفوضٌ المفاوضةَ على أفكار أولية، وهو لم يحفظ حتى شكل تنسيق مع محاوره المصري المعتاد، ولا المضيف قادر على بلورة أفكار تشق شُعباً ضيقاً في دغل العلاقات الإقليمية المتشابك. وعلى رغم ما يقال في الشراكة المتوسطية، وفي "الشراكة الإستراتيجية" الأخيرة، فالعلاقات العربية مع أوروبا الإتحاد الأوروبي ودوله لا تسوسها ولا تنظمها معايير استراتيجية، عسكرية أمنية واقتصادية، مختلفة عن المعايير التي يُحتكم إليها في العلاقات العربية والأميركية. ويصح هذا في المسائل التي تدرج تحت عنوان "الشرق الأوسط"، وفي المسائل الأوسع التي تعود إلى التبادل والخدمات والاستثمار والضمانات. بل لعل إرث العلاقات العربية والأوروبية أكثر تعقيداً وتشابكاً من إرث العلاقات العربية والأميركية. والأرجح أن الرئيس الفرنسي، السيد جاك شيراك، إذ يصوغ توجهات السياسة الفرنسية، وبعض نزعات السياسة الأوروبية، الصياغة الملطفة التي يتعمدها، يتيح فرصة لتأويل التوجهات والنزعات هذه على نحو بعيد من حقيقتها. ففي الشرق الأدنى، على ما يسمي الفرنسيون بلادنا، تكثر "مرايا القبرات" وهي الأشراك التي تقع فيها الطيور من تلقاء نفسها، لا يحدوها إلى الوقوع إلا زهوها بنفسها.