المشهد كان من نوع المشاهد التي "سبقت رؤيتها": فتيان فلسطينيون بعضهم مقنع والبعض الآخر سافر الوجه، يرشقون بالحجارة قوات شرطة، ثم يركضون مختبئين في زوايا الشوارع ومداخل البيوت، وحين يلمحون كاميرات تصورهم، يرفعون أصابعهم علامة النصر. خلال السنوات الماضية كان العالم كله اعتاد على تلك الصور. وكانت تلك الصور نفسها ما ساهم في تحويل قطاع كبير من الرأي العام العالمي، من تأييد إسرائيل المطلق إلى التعاطف مع القضية الفلسطينية. غير أن هذا المشهد نفسه كان ذا معان أخرى، حين صورته كاميرات الصحافة العالمية يوم 15 تشرين الثاني نوفمبر 1994. ولم يكن هذا، فقط، لأن الظروف الدولية قد تبدلت، بل خاصة لأن الطرف الآخر: السلطة ممثلة برجال الشرطة، كان تبدل كلياً. فالفتيان الفلسطينيون الآن لم يعودوا في مواجهة رجال الشرطة الإسرائيلية والقوات العسكرية المحتلة، بل في مواجهة قوات الشرطة التابعة للسلطة الوطنية الفلسطينية. والفتيان أنفسهم لم يعودوا "ثوار الانتفاضة" المتحركين بشكل عفوي سعياً إلى فتح أعين العالم على احتلال إسرائيل لبلادهم، بل صاروا "مناضلين محترفين" في تنظيمات تعلن نفسها إسلامية وتقف صراحة ضد اتفاقات أوسلو، وضد مسيرة السلام بشكل عام. وكانت هذه التنظيمات، وعلى رأسها بالطبع تنظيم "حماس"، قد أعلنت الحرب على السلطة الوطنية الفلسطينية، باكراً جداً، أي بعد أسابيع قليلة من "دخول ياسر عرفات المظفر" إلى مدينة غزة وانسحاب قوات الاحتلال الإسرائيلية من معظم مناطق ذلك القطاع، ومن بعض أنحاء الضفة الغربية، كخطوة أولى على طريق مساومات وتنازلات وخلافات واتفاقات، طويلة، لا تزال حتى الآن... خطوة أولى لا أكثر. غير أن "حماس" والتنظيمات الأخرى، لم تكتف - بالطبع - بالتصدي لمحاولات السلطة الوطنية اسكاتها ودفعها إلى الهدوء والانتظار، بل تحركت في الوقت نفسه مواصلة عملياتها ضد قوات الاحتلال الإسرائيلي، داخلة بهذا حرباً على جبهتين. وكانت اتفاقات أوسلو وملحقاتها تحتم على السلطة الوطنية أن تتولى محاربة "الارهاب"، "تخفيفاً للعبء عن السلطات الإسرائيلية"، حسب تعبير مناوئي تلك السلطة. وهكذا، لئن كانت تلك المحاربة - التي سيقال إن قوات السلطة الوطنية خاضتها على مضض على أية حال - قد اتخذت طابعاً لا دماء فيه أول الأمر، فإن ما حدث يوم 15 تشرين الثاني 1994، كان بداية حقيقية لصراع دموي عنيف. ومن الأمور ذات الدلالة أن يأتي ذلك تتويجاً لشهر من الصدامات والمطاردات بين الشرطة الفلسطينية ومناضلي التنظيمات الإسلامية، وان يكون نتيجة مباشرة؟ لعملية انتحارية ضخمة قامت بها "حماس" في الأسبوع الثالث من الشهر الفائت داخل "إسرائيل" نفسها، وأسفرت عن سقوط 22 قتيلاً وعشرات الجرحى. وكان من بين القتلى الانتحاري نفسه، الذي انفجرت قنبلته به وبركاب باص استقله. ولقد قال المحللون يومها إن العملية مزدوجة الهدف: ضد إسرائيل من جهة، لكنها من جهة أخرى موجهة ضد السلطة الوطنية... في محاولة لاحراج ياسر عرفات ومعرفة ما الذي سيكون عليه رد فعله: هل يحاول قمع الإسلاميين فيقف ضد مشاعر الرأي العام الفلسطيني والعربي، ويعزل نفسه عربياً ووطنياً؟ أم سيستنكف عن التدخل، فيخل باتفاقاته مع إسرائيل؟ كانت اللعبة في منتهى الدقة. وخاصة وان الرأي العام الفلسطيني في الداخل كان بدأ يشعر بالقلق بعد الاستقبال الرائع الذي خص به عرفات وسلطته الوطنية، خاصة، وان قسماً كبيراً من الرأي العام هذا، بدأ ينظر بشيء من التعاطف إلى معارضي عرفات وعملياتهم الانتحارية. مهما يكن في الأمر فإن عرفات حزم أمره، وقرر أن "ينقذ مسيرة السلام" وان "يحافظ على المكتسبات الهزيلة التي كانت القضية الفلسطينية حققتها حتى ذلك الحين". لكنه آثر ألا يضرب بسرعة وعلى الفور، بل وجه ضرباته بالتدريج: اعتقالات في صفوف قادة "حماس" وغيرها من التنظيمات المعارضة، حملة دعائية قوية في أوساط الرأي العام، اتصالات مكثفة مع أطراف خارجية يمكن أن تؤثر على "حماس"، وقمع راح يتصاعد بالتدريج، حتى بلغ ذروته في أول مواجهة عنيفة: حدث ذلك بعد صلاة الجمعة في غزة، حين وجدت قوات الشرطة نفسها متُجاوزة من قبل متظاهرين كان بعضهم مسلحاً وهاجموا تلك القوات، فما كان منها إلا أن اطلقت النار عليهم، فسقط 12 متظاهراً وقتل شرطي، إضافة إلى عدد من الجرحى. وانفتحت معركة طويلة، وعاد الرأي العام العالمي يشاهد تلك الصور التي ذكرت بالانتفاضة، مع ان "الطرف الآخر" فيها كان من أبناء الانتفاضة انفسهم. الصورة: عنف في غزة يواجه السلطة الوطنية