ما الفرق بين طفل صومالي وآخر عراقي حين يموتان جوعاً او مرضاً؟ ولماذا يذرف بعض العرب الدموع لموت أطفال في العراق ويتهمون الحصار الدولي، بينما لا يرمش لهم جفن لموت اطفال الصومال بسبب غياب الدور الدولي الذي سبق ان ادانوه ورفعوا أكاليل الغار عندما فشلت عملية الاممالمتحدة لإنقاذ الصومال؟ أليس هذا التمييز الصارخ بين أطفال العراقوالصومال نوعاً من الازدواجية يمارسها بعض العرب مثلما يتنفسون؟ وألا يؤكد ذلك مرة جديدة انهم ليسوا معنيين بطفل ولا بشيخ ولا بأي انسان عربي وانما هم مشغولون فقط بمهاجمة شياطين يتخيلونها في العالم، ومهمومون بالبحث عن وقود متجدد لحروب كلامية لا يراد لها أن تنتهي؟ فقد حملت الينا الأنباء في الاسابيع الأخيرة الكثير مما يدمي العين والقلب عن أحوال اهلنا في الصومال الذين صاروا يموتون عطشاً وليس فقط جوعاً. ويحدث ذلك بينما القتال بين عصابات "التحررالوطني" لا يهدأ في منطقة إلا ليشتعل في غيرها، كما كان الحال منذ انهيار الدولة في العام 1990. وما كان لهذه الفوضى القاتلة أن تستمر حتى الآن إلا لفشل التدخل الدولي الذي استهدف إنقاذ شعب الصومال في العام 1993. ولكنه قوبل بمقاومة عنيفة من العصابات السياسية والعرقية والقبائلية المسلحة المستفيدة من حال الفوضى. فكان أن انسحبت الدول التي شاركت في التدخل، وعلى رأسها الولاياتالمتحدة، وتركت الصومال لتغرق، وأهلها يموتون جوعاً ثم عطشاً الآن. وارتكب بعض العرب جريمة كبرى عندما ايدوا العصابات المسلحة، وخدعوا الرأي العام عندما زعموا ان هذه العصابات هي قوى مناضلة ضد الامبريالية التي تهدد سيادة الصومال. فقد اعتبروا التدخل الدولي استعمارياً رغم ان قسمه الأهم حدث في اطار الاممالمتحدة، التي يطالبون بتفعيلها حين تكون بعيدة عن الفعل. وللتذكير، فقد شاركت في التدخل الدولي لإنقاذ الصومال 35 دولة من بينها 14 عربية واسلامية على رأسها مصر، فضلاً عن عشر دول افريقية واسيوية ولاتينية. ولكن هذا لم يمنع بعض العرب من إدانة هذا التدخل والزعم بأنه استعماري، واتهام من أيدوه بالتبعية للاستعمار والصهيونية. ولم يشعر أي منهم بأنه مسؤول عن أرواح تزهق كل يوم. فهم لا يحفلون بالبشر وحياتهم ومصائرهم. كل ما يعنيهم هو ترديد الشعارات عن مواجهة الاستعمار والامبريالية ثم العولمة والزعم بأن العالم لا هم له الا التآمر علينا والسعي الى سحقنا!. فما إن بدأت عملية التدخل لإنقاد الصومال حتى انطلق اسرى "نظرية المؤامرة" مشككين في دوافع العملية. وقرأنا وسمعنا في خطابهم العجب العجاب كما هو معتاد. فقد قال الأقل إطلاعا على الدنيا منهم أن اميركا تريد السيطرة على الصومال لأهمية موقعها. ونسوا أن الدنيا كانت تغيرت بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وأن الصومال خسرت أهميتها الاستراتيجية التي كانت لها في عصر الحرب الباردة. اما الذين كانوا أدركوا ذلك، فقد قالوا العكس وهو ان موقع الصومال لا يفسر الاهتمام العالمي. ولكن النظرية التآمرية لم تسعفهم بتفسير آخر، فقالوا إن هناك اهدافاً للتدخل أكبر من الصومال من دون أن يعرفوا ما هي هذه الاهداف. وهكذا كان العداء الاعمى للغرب هو الذي وجّه عرباً متطرفين عاجزين عن التمييز بين عمل إنساني في المقام الأول وسلوك استعماري. صحيح أنه كانت هناك أخطاء في تنفيذ عملية التدخل وفي سلوك بعض القوات المشاركة فيها. وكان الخطأ الأكبر هو الانسياق وراء استفزازات جماعة محمد فارح عيديد، مما زجّ بقوات التدخل في صراع مع قبيلته الكبيرة قبيلة هبرجدر. ولكن هذه الاخطاء لا تبرر عجز بعض العرب عن ان يروا حال الشعب البائس الذي صار ضحية للفوضى التي ضربت الصومال، وبالتالي كان هو المستفيد الأول والاخير من التدخل الذي وقفت ضده العصابات المتناحرة. ويحسب للدكتور بطرس غالي السكرتير العام للامم المتحدة وقتها دوره المبادر في السعي الى التدخل وتحركه الدؤوب الذي فرض الموضوع على مجلس الأمن فاتخذ قرار التدخل العسكري الإنساني. وإذا كانت الضرورات تبيح المحظورات، فقد كان التدخل في الصومال أكثر من ضرورة. وإذا كان إنقاذ حياة المسلمين مقدماً على أي اعتبار، فقد أنقذ التدخل في الصومال في بدايته مئات الآلاف من الموت جوعاً. ومع ذلك أيد بعض العرب الأعمال الإجرامية التي قامت بها العصابات المسلحة في الصومال ضد القوات الدولية. والطريف أن قادة بعض هذه العصابات يعرفون جيداً مزاج العرب أصحاب الحناجر والشعارات، فرددوا كلام النضال ضد الاستعمار، من دون أن يجدوا ما يردون به على تساؤلات ساخرة عما يمكن ان يجنيه هذا الاستعمار من "خرابة" لا موارد تذكر فيها ولا قيمة استراتيجية بقيت لها بعد انتهاء عصر الحرب الباردة!. ووجدنا عرباً يصفقون لكلام العصابات وإجرامها ويهتفون فرحاً لقتل جنود باكستانيين وليس فقط اميركيين! ولا أنسى ابداً مقالة لكاتب سوري في صحيفة مصرية تحت عنوان: "راعي البقر فاتح الغرب يعبث بالصومال. فهي تمثل نموذجاً يجوز تدريسه لوطأة فكرة المؤامرة حين تسلب الإنسان وعيه فتحركه غريزة الانتقام حتى اذا كان هذا الانتقام مضاداً لمصالحه. ولم يسأل هؤلاء أنفسهم عن مغزى الجدل الذي اشتعل في داخل الولاياتالمتحدة حول جدوى التدخل في بلاد لا ناقة لهم فيها ولا جمل، ولا عن دلالة قوة الاتجاه الذي رفض التدخل مما فرض انسحاباً سريعاً عندما تعرض الجنود الاميركيون للخطر والمهانة. وبسبب العداء الأعمى، لم يبصر "الثوريون" العرب ما حدث، ففرحوا لما ظنوا أنه هزيمة لأميركا، بينما كانت الهزيمة الحقيقية من نصيب الشعب الصومالي واطفاله الذين لا يهتم احد بهم اليوم. وقرأنا عن "هزيمة منكرة للاميركان في الصومال" وعن "إحباط المحاولة الاميركية لاستعمار الصومال" وان "الصومال صارت امتداداً لفيتنام". فما الذي حدث؟ كان عكس ما بشّر به هؤلاء بالتمام. فقد تم إفشال محاولة إنقاذ الصومال من الانهيار وشعبها من الموت جوعاً فضلاً عن الحفاظ على وحدتها ومواجهة التفكك الذي يستحق ان نقف عنده بسرعة لأن الذين هاجموا التدخل الدولي هم اكثر من يحذرون من تفكك الدول العربية الى حد ان بعضهم يرفض الديموقراطية خوفاً على مركزية الدولة. ورغم ذلك إذ بهم وقفوا ضد التدخل الذي استهدف، من بين ما استهدفه، الحفاظ على وحدة الصومال، وأيدوا العصابات المتقاتلة التي يهدف كل منها الى الاستئثار بأجزاء من الصومال، بما يعنيه ذلك من تقسيم وليس مجرد تفكك. وهكذا في الوقت الذي كانت دموع التماسيح تذرف على سيادة الصومال، لم نجد دمعة واحدة على تقسيم دولة عربية بسبب فشل التدخل. جال كل هذا في خاطري خلال متابعتي الانباء عن موت الصوماليين عطشاً، فضلاً عن الموت جوعاً. فاذا كان بعضنا قادرين على الصمت هكذا إزاء المأساة الصومالية التي شاركوا في صنعها، فلماذا لا يصمتون كلياً لفترة يتركون فيها الأمة تعمل من اجل محاولة إصلاح ما أفسدته الانظمة التي ينحدرون منها أو يؤيدونها حتى الآن. لقد تحدثوا طويلاً عن دروس هزيمة اميركا وإنقاذ سيادة الصومال قبل ست سنوات، فكيف يرون الآن دروس انهيار الصومال ومأساة شعبه، ولماذا لا يذرفون دمعة على الأطفال هناك من بين الدموع المخصصة لأطفال العراق؟ هل لأنه لا توجد معركة ضد اميركا في الصومال الآن، أم لغياب منافع آنية أو مستقبلية؟ اذن فليمتْ الاطفال هناك فرادى وجماعات، لأن تذكرهم هو رهن فقط بأمهات المعارك وبوجود أنظمة مستبدة يؤيدونها عندما تتاجر بأطفال بلادها ويقفون وراءها كي تقود الأمة الى هزائم جديدة. إنه التخصص الذي برع فيه بعضنا وصاروا معلمين له: علم الهزيمة بفروعه المختلفة من نكبة ونكسة وتراجع وانكسار! * رئيس تحرير "التقرير الاستراتيجي العربي".