المشكلة الكبرى التي ستطرح في السنوات المقبلة تتعلّق بمسألة الكونية، أي تحديداً العلاقات بين "الغرب" وكل الآخرين. أستخدم هنا تعبير "الغرب" رغم افتقاره نظرياً لأي مضمون جغرافي - سياسي، مثله مثل تعبير "الأوروبي- الأطلسي" لأنه شائع الاستخدام ويؤدّي معناه، خصوصاً أنه مستخدم من جانب البعض ليحل محل تعبير "العالم الحر". الآخرون؟ في مقدمهم روسيا، شريكة الدول الغربية الكبرى، والعضو في مجلس الأمن وفي مجموعة الدول الصناعية الثمانية، والصين وهي أيضاً عضو في مجلس الأمن، وإنما أيضاً عشرات الدول الأخرى. كيف ينظر الغرب الى نفسه اليوم؟ أولاً كمنتصر. منتصر على التاريخ، ومنتصر على الاتحاد السوفياتي بعدما كان انتصر على النازية والفاشية، وفقاً لنظرة أفقية عبر مرحلتين: 1939 - 1945 و1989 -1991. كما ينظر الغرب الى نفسه على أنه تعبير عمّا هو كوني، عبر الإقتصاد المعولم بفضل التكنولوجيا، والبشر الموحدين بفضل تزامن الصور التي تنقل اليهم، وتحديداً عبر القيم، خصوصاً الأساسية منها كالديموقراطية وإقتصاد السوق، وما يترتّب عنها من حريات فردية وحريات اقتصادية، كدولة الحق والإنتخابات الحرّة ووسائل الإعلام الحرّ والقضاء المستقّل والإحترام التام لحقوق الإنسان الى آخره... مثل هذا البرنامج ينبغي أن يكون محور إجماع، لكنه يثير في الواقع انتقادات كثيرة. فالعديد من الدول يبدي مقاومة حياله لأسباب مختلفة منها الجيّد ومنها السيّء. وهناك في مختلف أنحاء العالم رجال ونساء مقتنعون بالأفكار الديموقراطية ويجازفون من أجلها، لكنهم يشعرون بأن الغرب يستخدم، أحياناً عن غير وعي، قيماً كونية حقيقية، لفرض نظامه ونفوذه. مثل هذا الموقف ينبغي ألا يثير صدمتنا، بل ينبغي تفهّمه. في مواجهة مثل هذه الاحتجاجات، غالباً ما يتصرّف الغرب بثقة وقناعة بأنه على حق. والمحتجون هم في نظره، متلكّئون يجب حثّهم بطريقة وديّة وإنما حازمة على الإنضمام سريعاً الى الديموقراطية وإقتصاد السوق، أو "منبوذون" وينبغي استبعادهم . أن الرغبة في رؤية الديموقراطية تعمّ العالم، وفي تسوية النزاعات سلماً وفي احترام شامل لحقوق الانسان، هي رغبة حميدة. فهذا هو بالتأكيد هدفنا الكبير المشترك. ولكن لا يسعنا ألا نلاحظ أن الإعلانات والدعوات والتشجيع والتهديد والعقوبات، الصادرة عن الغرب أو عن الدول الأكثر ثروة لا تؤدّي فوراً الى النتائج المرجوّة. فالجدل مستمّر حول ما إذا كانت القيم الغربية قيماً كونية وما إذا كان الحقّ الغربي موضع إجماع كوني. فالبعض يرى في ذلك نزاعاً لم يجر تجاوزه بين الحضارات، وربّما يرى أنه غير قابل للتجاوز، ورغم أني لست من هذا الرأي، فإنها مشكلة مطروحة. بعض الأمثلة: - عبر الفصل السابع لميثاق الأممالمتحدة، يقرّ الغرب لنفسه ب "حق التدخّل"، في حال وقوع مأساة إنسانية أو مجازر، من دون اللجوء الى مجلس الأمن إذا اقتضى الأمر ذلك، ويتجاوز في مثل هذه الحالات سيادة الدول. لكن العديد من دول الجنوب تردّ بأن السيادة التي حصلت عليها بصعوبة هي آخر واقٍ لها وتساءل: من الذي يتدخّل عند من وبأي حق؟ - الغرب يطالب الآخرين بديموقراطية فورية، فيرّد الآخرون: اتركوا لنا متّسعاً من الوقت، كذلك الذي حصلتم عليه أنتم. وتضيف الدول المتقدمة "افتحوا أسواقكم"، أما دول الجنوب الأخرى فتقول "لا نزال بحاجة الى مساعدة للتطوّر". - على صعيد الأمن، يحظّر الغرب على الآخرين إقتناء الأسلحة الأكثر فتكاً، الموجودة لديه ويريد أن يحدّ ويبطىء تعميم التكنولوجيا ذات الاستخدام المزدوج والتي يمكن للائحتها أن تطول. ويريد الغرب أن يردع ويقمع ويغلب ويعاقب، ولكنه لا يتحمّل أن يكون في مجرّد موقع تهديد، ويرفع في مواجهة أسلحة الدمار الشامل، مبدأ الحيطة. لكن دول الجنوب تشير الى أن الأمن من حقها أيضاً، خصوصاً في علاقة الواحدة منها مع الآخرى، وأنه لا يمكن للغرب الذي لم يكن يوماً في مثل قوته الحالية، أن يثير باستمرار مسألة أمنه لمنعها من التطوّر. - الأمر نفسه ينطبق على العدالة الدولية. فحيث نكون مقتنعين بتقدّم الحقّ وتراجع الحصانة لكبار المجرمين. فإن العديد من الدول، ومنها الموقّعة على نصّ إنشاء المحكمة الجزائية الدولية، تريد التحقّق من أن هذه ا لخطوة تعبّر عمّا هو أكثر من توسيع دائرة نفوذ القضاة الغربيين الجدد، الى خارج حدود دولهم. وهناك بالمقابل الدول التي لم توقّع على إنشاء المحكمة لأسباب وطنية، ومن بينها للأسف دول مهمة. - والأمر نفسه ينطبق أيضاً على الحقّ في العمل وحماية البيئة. الغرب يريد إزالة أوضاع لا تطاق منها مثلاً عمالة الأطفال، ويجعل من هذه القاعدة مقياساً للحكم على نجاح المفاوضات التجارية الدولية المقبلة. لكن الدول التي هي على طريق التطور تعتبر ان الدول المتطورة ما كانت لتقلع، لو أنها واجهت مثل هذه القيود. ... إن فخرنا بمستوى الديموقراطية الذي بلغناه يجعلنا نسعى الى ضم العالم كله إليه بالحسنى أم بالقوّة. ولكن فرضنا على دول، هي أبعد ما تكون عن هذا الواقع، الاحترام الفوري للقواعد الديموقراطية التي شيّدناها على مدى قرنين أو ثلاثة، ورفضنا تخويلها مراحل انتقالية مررنا نحن بها بالطبع، ألا يؤدّي عملياً الى إثقالها؟ هذا التساؤل قد يصدم البعض، ولكن من غير الممكن تجاهله. فالآراء منقسمة جدّاً حياله، ولكن عدداً من الدول ال 188 الأعضاء في الأممالمتحدة يعتقد أنه مشكلة حقيقية. إن الجدل في أوروبا اليوم حول وتيرة التقدّم نحو الديموقراطية يبدو شبه متعذّر نظراً الى ما يثيره من صدمة. ومردّ هذه الصدمة الى الخلط السائد بين الوتيرة و"النسبية الثقافية". والفكرة القائلة بأن الديموقراطية جيّدة للغربيين وسيّئة أو لا حاجة لها عند الصينيين أو الأفارقة على سبيل المثال، هي من قبيل الأفكار التي يستحيل الدفاع عنها. وهذا ليس في أي حال محور كلامي. ولكن لا بدّ أن نلاحظ أنه ليست لدينا معادلات سحرية كفيلة بتحويل الصين فوراً الى ديموقراطية كبيرة، وتحويل ركام الإتحاد السوفياتي الى سوق مزدهرة اقتصادياً وطبيعية وتحويل منطقة البحيرات الكبرى منطقة سلام وتعاون، وجعل افغانستان على غرار المغرب، والبلقان على غرار سويسرا وهلّم جراً. فعلينا ان نفكّر في الأمور من زاوية النهج التاريخي والترسيخ التدريجي والمراحل. كثيرون هم الأشخاص الذين نسوا بعد إنهيار الإتحاد السوفياتي، والماركسية التي تمادى بها، المبادىء الاساسية للتاريخ وعلم الإجتماع والإقتصاد، ويعتقدون أن في الإمكان من لحظة الى أخرى تحويل أحد أكبر مؤيدي الطغيان، الى مؤيد مفرط للديموقراطية. وروسيا سنة 1992 تشكّل خير نموذج على هذا الوهم. فكيف يمكن للقواعد الاولترا-ليبرالية المعدّة للإقتصاديات الغربية القوية والشديدة التطوّر، أن تطبّق على وضع روسيا سنة 1992. فهذا الوضع كان أسوأ مما كان عليه وضع أوروبا الغربية غداة الحرب العالمية الثانية، إذ اعتمدت لإعادة بناء نفسها وعلى مدى قرون، نهج التخطيط والتنظيم والقرارات العامة. تحوّل أم نهج؟ سواء تعلّق الأمر بالديموقراطية أم بالإقتصاد، تبقى لمسألة الوتيرة، في تطوّر المجتمعات، مسألة أساسية، وينبغي أن نمتلك الشجاعة الفكرية والسياسية لمواجهتها. ولكن علينا ايضاً ان نرفض تماماً استخدامها كذريعة، من جانب أولئك الذين لا يريدون أي تغيير، وأي إصلاح، وأولئك الذين يلجأون الى أسوأ أساليب القمع للإبقاء على الوضع القائم. وبين المثاليين الذين يريدون تجاوز التاريخ وأولئك الذين يعتبرون عن غير جدوى أن باستطاعتهم ايقافه، علينا أن نحدّد ونعمل من أجل التزام مستمّر وثابت بالديموقراطية العالمية، التي ينبغي ألا تكون مجرّد نسخة مفروضة من جانب من هم أكثر قوّة على من هم أكثر ضعفاً، بل أن تستند الى جدلية يمتزج في إطارها التطوّر والحداثة وإحلال الديموقراطية. فأمامنا الكثير ممّا ينبغي القيام به، إنما بأسلوب آخر، لكي تكون قيمنا التي نعتبرها كونية، ويتبنّاها رجال ونساء في العالم أجمع، مقبولة باعتبارها كونية بالفعل. * النص لوزير الخارجية الفرنسي، وهو الجزء الأساسي من نصّ كلمة ألقاها أمام المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية لمناسبة الذكرى العشرين لتأسيسه، وينشر بموافقة من الوزير.