كتابٌ صدر مؤخراً في الولاياتالمتحدة شكّل مناسبة لتجديد النقاش حول السياسة الخارجية الاميركية. الكتاب لأريك ألترمان الذي يعتبر من يساريي الوسط، واسمه "من الذي يتكلم باسم اميركا؟ لماذا الديموقراطية مهمة في السياسة الخارجية؟". ويبدو من العروض التي تناولته ان الفكرة الاساسية التي يدور حولها هي التالية: لقد اضحت السياسة الخارجية ملكاً حصرياً لنخبة تخدم مصالحها ولا تمثل مصالح الشعب الاميركي او تعمل بموجبها. لهذا ينبغي اخراجها من الحيّز السياسي ووضعها في عهدة قضاة عادلين يمثلون مصالح الشعب بدقة اكبر بما لا يقاس. فاريد زخاريا، المثقف المؤثّر ورئيس تحرير "فورين أفيرز" خالف وجهة النظر هذه، وتمسّك بابقاء السياسة الخارجية في عهدة المؤسسات التي تصنع القرار تقليدياً. مع هذا فالاثنان يلتقيان على "عدم وجود سياسة خارجية اميركية متماسكة" على رغم القوة والقرار الواضح اللذين ظهرت عليهما الادارة مع انتخابات منتصف الولاية، وبعد انحسار فضيحة كينيث ستار. في العراق بدا الافتقار على شكل تناقض بين راغبين في توجيه الضربة اولبرايت، كوهين، وحتى غور، ورافضين لتوجيهها كلينتون وساندي بيرغر. السياسة التي عبّر عنها هولبروك في البلقان تُضرب مثلاً آخر: حلّ رجراج لمشكلة البوسنة وتهديد صلب لأوضاع كوسوفو. آل غور في ماليزيا استخدم لغة بدا ان الديبلوماسية الاميركية طلّقتها. السببان الرئيسيان اللذان يتم ايرادهما في معرض تفسير الاضطراب والتناقض، هما: اولاً - ان الجسم الاميركي لم يتكيّف مع مرحلة ما بعد انتهاء الحرب الباردة وشكل العالم الراهن. وقد ضاعف صعوبات التكيّف ان ادارة جورج بوش تركت اموراً معلّقة كثيرة العراق، فيما بدت بعض المراحل الانتقالية لبعض البلدان روسيا اصعب من ان يتم عقلها والسيطرة عليها. وفي هذا الاطار يندرج التحول الذي عرفته اسرائيل باتجاه ادارة استثنائية في تطرفها وممانعتها. عدم التكيّف هذا لا يقتصر على الادارة بعينها، بل يشمل العقل السياسي الاميركي. فهنري كيسينجر، مثلاً، الذي ارتبط اسمه بقصف كمبوديا، دافع عن عدم التدخل في البوسنة فاستحق عبارة ريك هيرتزبرغ، صحافي "النيويوركر": "لقد اصبح مجرم سلام". ثانياً - ان الاهداف المطروحة على السياسة الخارجية متناقضة بذاتها، او ان الدرجة المتفاوتة لتطور بلدان كثيرة الصين لا تسمح لتلك السياسة بمبارحة تناقضاتها. وهنا تكتسب اهمية خاصة مسألة التوفيق بين حقوق الانسان والديموقراطية من جهة، وبين المصالح من جهة اخرى. يمكن، بالضبط، اضافة عناصر اخرى لعبت هذا الدور المعيق او ذاك. فسيطرة الانعزالية على الكونغرس كان لها سهمها بالتأكيد. والذين يتحدثون، في اليسار، عن دور "المصالح النخبوية"، يجدون، في اليمين، من يتحدث عن صعوبات اتخاذ قرارات حاسمة من قبل الجيل الستيني الذي تربى على معاداة العنف بالمطلق. الموضوع، من دون شك، مثير وجذّاب، خصوصاً لمن كان، كالعرب، مضطراً لأن يكون بالغ الاهتمام بالسياسة الخارجية لأميركا.