ينوي البابا يوحنا بولس الثاني البالغ من العمر 79 عاماً القيام بزيارة الى الشرق الاوسط في نهاية السنة. لا أحد يشك بالطبع في اخلاصه اذ يستعد، على رغم تدهور صحته، لزيارة دينية مضنية. لكن لا شك في ان النتائج المترتبة على زيارة كهذه تستثير السياسيين والديبلوماسيين. واُتيحت لي الفرصة في مطلع الشهر الجاري للتباحث مع بطريرك الكلدان روفائيل بيداويد في شأن جولة البابا المثيرة للجدل، وذلك اثناء مأدبة غداء اُقيمت له في المركز العربي البريطاني في لندن. وبدا في ذلك الحين ان البابا سيعود جواً الى روما في ختام زيارته الى العراق في كانون الاول ديسمبر المقبل قبل أن يعلن تأجيل الزيارة. وسيرافقه طبيب طيلة الرحلة. وقال البطريرك، الذي يرعى المسيحيين الكاثوليك في العراق البالغ عددهم 800 األف، ان زيارة البابا الى بلاده ستكون "نعمة من السماء". ولم يُكشف بعد عن تفاصيل برنامج الزيارة. لكن البابا يريد ان يتوجه الى مدينة اور التاريخية التي تقع على مسافة 240 ميلاً جنوببغداد وتعتبر مسقط رأس النبي ابراهيم. لم يتأثر البطريرك بادعاء اطلقه اخيراً بروفسور ايطالي مفاده ان موقع اور الحقيقي يبعد اميالاً كثيرة عن هذا المكان!. وكانت وزارة الخارجية في لندن أدلت في البداية بتصريحات قوية ضد قيام البابا بزيارة الى العراق. وابلغت الوزارة الفاتيكان ان العراق يملك سجلاً حافلاً باستغلال مثل هذه الزيارات لإضفاء الشرعية على نظامه المستبد. كما تبنّت وزارة الخارجية الاميركية لهجة مماثلة. لكن وزارة الخارجية البريطانية تعرضت الى انتقادات قاسية من قبل بعض الاوساط في الصحافة البريطانية لما أبدته من غطرسة وحماقة، إذ حاولت ان تحدد لرئىس الكنيسة الكاثوليكية الاماكن التي يُمكن ان يزورها. وبدت الوزارة مذ ذاك اكثر حذراً في تصريحاتها. المشكلة الاساسية تكمن، بالطبع، في ان البابا يعد من الناحية الفنية رئيس دولة ويلقى بالتالي الترحيب من رؤساء الدول. ومن الصعب ان نرى كيف يمكن للبابا ان يتحاشى لقاءً رسمياً - مهما كان قصيراً - مع الرئيس صدام حسين. وواضح بالقدر ذاته ان صدام سيسعى لاستغلال مثل هذه المناسبة الى اقصى حد، وسيبذل قصارى جهده لاحراج الولاياتالمتحدة والمملكة المتحدة، والامم المتحدة ايضاً بقدر ما يتعلق الأمر بها. ما هي الأشياء الأخرى التي سيقوم بها البابا في العراق؟ المعروف انه يتبنى آراء قوية في شأن تأثير العقوبات الدولية، ولا بد ان برنامجه سيتضمن زيارة الى احدى المستشفيات. وماذا سيقول في شأن سجل العراق المريع على صعيد حقوق الانسان؟ أخذاً في الاعتبار الهوة الكبيرة التي تفصل بين مواقف الولاياتالمتحدةوالعراق، ستكون كل كلمة يتفوه بها، وكل ايماءة، موضع تمحيص من قبل وسائل الاعلام لمعرفة أي الجانبين يحظى بالتأييد. وكان البابا ينوي ان يقوم، بعد زيارته الى العراق، برحلة في مطلع السنة المقبلة الى الارض المقدسة، لكن هذه الرحلة مهددة في الوقت الحاضر. فالسلطات الاسرائيلية قررت، في مواجهة خيارٍ صعب، تأييد بناء مسجد قرب اكثر الاضرحة المسيحية قدسية في الناصرة: كنيسة البشارة. ويؤمن المسيحيون بأن هذا هو المكان الذي بشر فيه المَلَك جبريل مريم بأنها ستلد المسيح. وحسب تصريح كبير الناطقين باسم الفاتيكان فإن "مثل هذا الوضع لا يساعد على التهيئة لحجّة محتملة للبابا الى هذا المقدس الشهير". وأعلن البابا خلال الصيف انه "يتوق بقوة" لزيارة الاماكن المقدسة في الشرق الاوسط في اطار الاحتفال بالالفية الجديدة. ويُسجّل له انه استطاع في السابق ان يحقق ما يريده. وقد التقى بحكام ديكتاتوريين كثيرين خلال 87 رحلة قام بها خارج الفاتيكان، وبدل ان يمنحهم شرعية كانت الانتقادات التي يصوغها بعناية غالباً ما تؤدي الى اضعافهم. وعلى صعيد الكثير من القضايا الحاسمة التي تواجه الشرق الاوسط، أيّد البابا بقوة ما يرى انه الصواب، وما يبدو انه مناصرة لوجهات نظر العرب. ويوجد خلف الكواليس تعاون وثيق بين الفاتيكان و"قصر لامبث" مقر كبير اساقفة كاتدرائية كانتربري، وامتاز الاخير على غرار البابا بتصريحاته بين حين وآخر في شأن مواضيع مثل تشريد المسيحيين من الارض المقدسة ومستقبل المدينة المقدسة. تُذكّر جولات البابا المحتملة الى المنطقة بمدى صعوبة ان يكون أي فرد زعيماً دينياً على مستوى عالمي وفي الوقت نفسه رئىس دولة بارز على المسرح الدولي. واعبّر عن اعجابي بشجاعة وتصميم البابا يوحنا بولس الثاني ووقاره الرائع، فيما ينتابني في الوقت ذاته الفزع إزاء بعض احكامه الدينية التي تميل الى ان تكون محافظة الى أبعد حد. آمل ان تتحقق كلا زيارتيه، لأن ذلك من شأنه ان يسلط الضوء على البعض من اكبر اعمال الظلم في عصرنا. * سياسي بريطاني، مدير "مجلس تحسين التفاهم العربي - البريطاني" كابو.