شهدت سورية في العقود الأخيرة، من مدخل الزراعة والفلاحين، تحولات هائلة طالت ديموغرافيتها عموماً. لكن فلاحيها انما يتوزعون فئات وأنماطاً اجتماعية عدة. وفي ما يتصل بسلوكهم ومواقفهم السياسية يبقى مهماً التمييز بين "الفلاحين الجُنيناتيين" و"الفلاحين الزراعيين"، وبين الفلاحين ذوي الميراث القتالي والسكن الجبلي، وأولئك الأشد طواعية من أبناء السهول المفتوحة، كما بين الفلاحين الذين بلا روابط عشائرية والمنضوين في روابط كهذه، وبين مالكي الأرض منهم والذين بلا أرض، وبين الخاضعين لتأثيرات الصوفية والطرق بما يدفعهم الى التقية، والمتحررين منها. وهذه الفوارق تترتب عليها فوارق في السياسات على ما يرى حنا بطاطو في كتابه الجديد "فلاحو سورية، المتحدرون من الأعيان الريفيين الأدنى، وسياساتهم" منشورات جامعة برينستون. ويلاحَظ على طول الخط أن الصوفية كانت، وبما لا يرقى اليه الشك، احدى القوى المحافظة القوية التأثير في حياة الفلاحين، كما شكلت عائقاً في طريق كل جهد عقلاني لتوفير حلول فعلية لمشاكلهم. وفي لحظة التقاطع بين التاريخ السياسي للحركة الوطنية والتاريخ السياسي المنبثق من المسألة الزراعية، كان الفلاحون، من بين سائر الطبقات، الأكثر تضرراً من ثورة 1925-27. فبفعل القصف الفرنسي المتتالي والأعمال الانتقامية المصاحبة، دُمّر كثيرون منهم في الغوطة فخسروا بيوتهم ومواشيهم ومواسمهم، ونزلت بفلاحي جبل الدروز ضربات اصغر. الا ان الثورة قاربت بين هاتين المجموعتين الفلاحيتين، قفزاً فوق فوارق الطائفة والمنطقة، بفعل وحدة التجربة والمعاناة العابرة. ولئن نشأت النواة الشيوعية اللبنانية - السورية الأولى في 1924 فانها لم تكن موجهة أساساً اليهم، الا بوصفهم "حلفاء الطبقة العاملة". مع هذا كانت الشيوعية أول قوة سياسية تستحضر الفلاحين الى حلبة السياسة الحزبية، مؤكدة في 1930 على ضرورة تنظيمهم نقابياً. بيد أن شهر العسل لم يطل، خصوصاً وقد انكمش الحضور الشيوعي في المنطقة كلها بسبب الموقف من النزاع العربي - اليهودي في الاربعينات، وبعد ذاك الاصطدام بالوحدة مع مصر وبالناصرية وجماهيريتها اواخر الخمسينات. حتى اذا تحالف الشيوعيون مع النظام البعثي، بدءا بالسبعينات، تراجع تأثيرهم فيما جاءت انقساماتهم تعزز التراجع المذكور. وهذا كله عُطف على تقلبات خالد بكداش حيال المسألتين الوطنية والزراعية، فكانت النتيجة كارثية. أما الحزب الاشتراكي العربي الذي أسسه أكرم الحوراني، فكان من قاد الطريق الى تحول الفلاحين مادةً للسياسة وموضوعاً. وخطا الحورانيون ايضاً خطوات حاسمة في تحرير أعداد كبرى من العناصر الأفقر في سورية الوسطى من الأثر الشالّ للقَدرية الصوفية، ممهدين لدخولهم الى السياسة، ولاحقا لحصول تغييرات اجتماعية حُققت في عهد البعث. لكن قيادة العربي الاشتراكي، وقبله "حزب الشبيبة"، والاثنان أسسهما الحوراني انطلاقاً من تقليد التذمر الفلاحي في حماه وتعبيرا عنه، لم تكن قيادتهما في أيد فلاحية. وهو التركيب الذي لم يتغير قليلا الا بعد 1950 حين اندفعت زعامة الحوراني وطنيا بما تعدى مدينته. على أن الفلاحين هم الذين قاموا ببناء التنظيم وتحريض باقي طبقتهم، كما شكلوا الجسم العريض للحزب. وفي هذا كله كانوا متعددي الطوائف والمناطق. وبكلمة، فأكرم الحوراني هو القائد التاريخي لفلاحي سورية، عادى الملاكين وشيوخ العشائر ووثّق الصلات مبكرا بالجيش فشكل جسر العبور من قبل شبان كثيرين الى كلية حمص الشهيرة. فحين اندمج مع البعث نشأ بعث ثان غير الأول الأصلي الذي أسسه ميشيل عفلق. فهذا الأخير، وفي عداده الملاك الديري جلال السيّد وأفكار المثقف الاسكندروني زكي الأرسوزي، كان في عمومه مديني القيادة، يمتلئ جسمه بالمدرسين والطلبة الريفيي الأصل، الا أن تركيزه كان على قضية الوحدة العربية. واندماج الطرفين كان له أن قوّى البعث لا سيما في جبل العلويين، كما رفع جرعته الاجتماعية وضاعفها. لكن بعثا ثالثا بدأت نواته تنشأ مع قيام "اللجنة العسكرية" في 1959، ليتبلور مع تبلور الدور والزعامة اللذين شغلهما لاحقاً حافظ الأسد. وكانت "اللجنة" أضافت الى تناقضات عفلق والحوراني تناقضات جديدة مصدرها عسكرية الأعضاء وتكوينهم المناطقي والمذهبي. لقد انتسب أربعة من أصل خمسة هم قيادتها، وعشرة من أصل تسع عشرة هم أعضاؤها، الى طبقة الأعيان الريفيين المتوسطين أو الأدنى. ولم يكن فيهم واحد من المحاصّين أو العديمي الملكية. وهذا التطور كان، في وجه منه، تعبيراً عن صعود اقتصادي واجتماعي شرعت هذه الطبقة تحققه ببطء في عقود خلت. فالحق ان تأسيس هذه الوجهة بدأ مع الانتداب الفرنسي حين جزّأ سورية وخلق كيانات سياسية ريفية مميزة ذات اجهزة ادارية متصلة بها. وهذا ما ساعد على رفع الريف الى مصاف الموازنة مع المدن، ورفع أعيانه الى مصاف القرار الذي كان يصنعه المدينيون وحدهم. وقد سبق لجاك ويلرس، أكبر دارسي الفلاح والريف في سورية، أن أسمى السياسة المذكورة "التعاطف النشط ]من الفرنسيين[ مع التجمعات الريفية". أما الحالة التي نحن بصددها، فصبّت عناصرُ عدة في خدمتها، أبرزها ضعف الضباط المدينيين ليس فقط لأسباب عقائدية وشخصية، بل أيضاً وأساساً لتناقضاتهم ما بين دمشقيين وحلبيين، ووحدويين وانفصاليين، ولخلافاتهم مع مجانسيهم في المذهب من أبناء الريف، فضلاً عن خلافات هؤلاء الأخيرين ما بين ديريين وحوارنة. وإذا ترافقت التطورات تلك مع تصفية واحدهم الآخر، فانهم ما لبثوا أن خضعوا ككتلة للتصفية في 1963 ثم في 1970، قبل أن يخضع للمصير نفسه الضباط الدروز سليم حاطوم، فهد الشاعر والسنة الريفيون أحمد سويداني. ولئن سار الصعود هذا في موازاة هجرة ريفية الى المدن، فانه بدوره فاقمها، فارتفع ساكنو دمشق من 529 ألفاً في 1960 الى 836 ألفاً في 1970 فمليون ومئة ألف في 1981. وفي المقابل انفتحت أبواب الادارة على مصراعيها لهؤلاء الوافدين الجدد، لا سيما مع تأميمات 1964 و1965، ومن ثم توسع دور الحكومة في الحياة العامة، فزاد عدد موظفي الدولة والقطاع العام، ما خلا الجيش والقوى الأمنية، من 33979 في 1960 الى 198079 في 1971 الى 367649 في 1980 ف546146 في 1985 و717387 في 1992. واعتمد توسع الحزب، بعد وصوله الى السلطة في 1963، على الانتساب والتنسيب الريفيين الكثيفين، في ظل ضعف البعث بين أبناء المدن على ما تجلى في الاستعانة عليها، في لحظات احتجاجها، بالفلاحين يؤتى بهم من أريافهم ويتم انزالهم في مواقع الاحتجاج. أما المدينيون الذين استقطبهم الحزب فكانوا في أغلبيتهم الكاسحة من أصول غير بعيدة في الريف. وأهم مما عداه التكوين الاجتماعي للحزب في مستواه القيادي. فمن أصل 24 فرداً صعدوا الى القيادة القطرية بين 1966 و1970، جاء 54 في المئة من القرى و33 من بلدات ريفية و8 من المدن الكبرى، بعدما كان التمثيل المديني في 1963-1966 قد بلغ 17 في المئة، علماً بأن المرحلتين خلتا من كل تمثيل دمشقي. وكان 31 في المئة من أعضاء القيادة القطرية خلال 1963 - 1966 و37 في المئة خلال 1966 - 1970 من عائلات الأعيان والأعيان الأدنى في القرى، كما جاء قرابة 45 في المئة منهم خلال 1963 - 1970 من أصول فلاحية، معظمهم مدرّسون أو ضباط، بمن فيهم الضباط الذين عملوا أساتذة قبل انخراطهم العسكري. لقد كان أهم ما فعله البعث، من وجهة نظر الفلاحين، التشدد في قانون الاصلاح الزراعي الرقم 161 الذي أصدرته دولة الوحدة في 1958، مع تسريع عمليات توزيع الأراضي التي طالها القانون، لا سيما حين عُهد بالمهمة الى ابراهيم ماخوس ابان 1968 - 1969. فبفضل المرسوم الرقم 88 الصادر في حزيران يونيو 1963 تم خفض سقوف الملكيات الزراعية وتسهيل شروط دفع الفلاحين مقابل تملكها. بيد أن تغيرات التحالفات السياسية والحزبية في الستينات، والشكوك في صدد مصائر الملكية، ونزوح الرساميل، مصحوبة بالتقلب المألوف في أسعار المحاصيل، أساءت الى الشروط الزراعية أكثر مما خدمتها. فالبطالة الريفية لامست ال12 في المئة عام 1964. وعملت مقاومة الملاكين وعدم تجاوب البيروقراطيين المدينيين، فضلا عن التعقيدات القانونية على الدفع في الاتجاه نفسه. وعلى العموم كان التهليل الحماسي اكبر من النتائج الفعلية. فرغم تمليك الأرض للبعض، لا الكل طبعاً، ورغم تحسينات طالت بعض أوجه مستويات المعيشة في الريف، تضافرت ثقافة احتقار الملكية، وعدم الاعتراف بالصكوك، والأحقاد الريفية، وعدم توجيه الفلاحين نحو أشكال تعاونية في الملكية والانتاج، لتفاقم السلبيات والسيئات. وتشير الأرقام الى من حصدوا الثمار الجدية كانوا الفلاحين المتوسطين او العناصر الريفية الوسطى في الطبقات المالكة للأرض، والتي تشكل مصدر تعزيز شعبية الحزب ومصدر امداد الجيش بالضباط. لكن بعض البعثيين في الستينات، لا سيما المقربين من صلاح جديد، حاولوا أن يذهبوا أبعد، وان يستحضروا الى الواجهة مصالح الفلاحين ككل، من خلال تعديل العلاقة التي تربطهم بتجار السوق المدينيين ممن يسيطرون على الأسواق التي يباع فيها الانتاج الفلاحي. وحاولوا، في هذا المعنى، تغيير معادلات توزيع العوائد الاقتصادية لمصلحة الريفيين، كما رفعوا حصة المزارعين الذين بلا أرض الى ما معدله 14.25 في المئة من الناتج. وأهم من هذا أنهم بانشائهم شبكة جامعة للاتحادات المهنية والنقابية لفلاحي المناطق، في النصف الثاني من الستينات، دفعوا الى الأمام عملية تنظيم الفلاحين كطبقة عززها البعثيون أنفسهم بالثقافة السياسية وساقوها الى حلبة السياسة. ومع أن كثيرين منهم مضوا يعيشون في الهامش الاقتصادي، فالفلاحون ككل اكتسبوا موقعاً في المجتمع، خصوصاً أن العام 1968 شهد بداية العمل ببناء سد الفرات، وهو ما أمّن الكهرباء لمعظم الريف السوري، كما ساعد على تغيير وجه هذا الريف عموماً. يجوز القول، إذن، إن الحيّز الاجتماعي - الديموغرافي يوفر عنصرا مهماً من تلك التي يتفسّر بها سقوط صلاح جديد ومجموعته في 1970. ألا وهو عدم استقرار سلطتهم تبعاً لسيولة الوضع الاجتماعي وسرعة حِراكه، كما تبعاً لمقاومة المدن. وبالطبع تجسدت العناصر الأخرى في وضع اقتصادي مهتز، وعلاقات اقليمية ودولية لا تقل اهتزازاً، وهزيمة 1967، وصراعات الأجنحة. وهذا من دون أن نغفل أن تاريخ البعث في السلطة خلال الستينات كان بالتحديد سجلاً بصراعات الأجنحة التي لا تستنفدها معايير الاختلاف في الايديولوجيا أو المناطق أو الطوائف وحدها، فيستحيل فهمها من دون الطموحات الأنانية في احراز السلطة عاريةً ومحضة. فقد بولغ في التعويل على العنصر الايديولوجي، علماً بأن صلاح جديد نفسه لم يكن متماسكاً ايديولوجياً، فيما كان رفاقه عاطفيين في اشتراكيتهم، فلم يمكن، مثلا، ان يخطر في بالهم، رغم تطرفهم، الغاء الملكية الخاصة، كما لم يتخلوا عن تحفظاتهم الكثيرة عن الشيوعيين. وبدوره ظل حافظ الأسد حتى 1968 أقرب الى خط عبدالكريم الجندي، وهو على يسار جديد، إلا أن تحوله الذي وُصف اتعاظاً منه بدروس تجربة حزيران، كان في أساسه تعبيراً عن رغبة مُستجدّة في تلطيف حدّة الصراع المديني - الريفي والعمل على كسب الطبقات المدينية الوسطى. وبفعل التحول هذا نشأت الازدواجية وتنامت داخل سلطة البعث ابان 1968 - 1970، حتى اذا ما حسمها الأسد بانقلابه لقي أقصى التأييد في دمشق وسائر المدن. ومنذ ذلك الحين شرع البعث الثالث يكتسب ملامح الأسد وشخصيته. فصفاته في الحذر والمرونة والواقعية السياسية، هي ما تكيّف الحزب على ضوئها، وغدت ايديولوجيته أقرب الى مرآة لآراء الرئيس السوري، كما غدا التماسك الحزبي يُقاس بمدى الولاء له. والى حد بعيد أضحى تاريخا الحزب والنظام يمتزجان في سيرة الأسد. على أن الملمح الأبرز الذي احرزه الجسم الحزبي في ظل الاسد كان نموه السريع. فمن عضوية بلغ مجموعها 65398 في 1971 ارتفع العدد الى 374332 في 1981 والى 1008243 في 1992 من أصل 13 مليون سوري يومذاك. فإذا تذكرنا أن الحزب لا يقبل "النصير" الا اذا كان في الرابعة عشرة وما يزيد، ولا يقبل "العضو العامل" الا وقد بلغ الثامنة عشرة وما يزيد، اتضح ان البعث ضم في تلك السنة ما لا يقل عن 14.5 في المئة من السوريين الذين في الرابعة عشرة وما يزيد. اما في التوزع الجنسي فيشكل الرجال ثلاثة الأرباع، ما يعني أن 21.7 في المئة من جميع الذكور السوريين الذين في الرابعة عشرة أو ما يزيد، هم في البعث. وفي المقارنة مع حزب كالشيوعي السوفياتي، يلاحظ أن الأخير لم يضم، في أوج قوته، إلا 9 في المئة من مجموع سكان البلاد الراشدين. وهذا على رغم أعمال التطهير الواسعة للبعثيين غير المرضي عنهم خلال الفترات المعنية. إذ، وتبعاً لتقرير حزبي داخلي، تعرّض ما لا يقل عن 3243 عضواً عاملاً و133580 نصيراً للطرد بين 1980 و1984، مثلاً. بيد أن الانتساب لم يعد تعبيراً عن موقف او تأييد عفوي على ما كان الاقبال على البعث يعنيه في الأربعينات والخمسينات. ذاك أن القرار القيادي غدا العنصر الحاسم في تقرير الوجهة هذه. وعملت، كذلك، الرغبة في الترقّي الاجتماعي على توسيع العضوية، فضلا عن قناعة كثيرين، بالطبع، في البيئات الريفية والفلاحية والأقلية بأن البعث حزبهم وممثل مصالحهم. وفعلا نجح الحزب، في هذا المجال، في انشاء أخوية حقيقية بين منتسبيه الفلاحين الأصغر سناً والأكثر تعلماً على تعدد انتماءاتهم المذهبية والجهوية. على أنه بقي ضعيفاً في حلب ودمشق، مع أنه حسّن حظوظه قليلاً في السنوات الاخيرة. ففي مقابل كل طالب ثانوي بعثي من دمشق في 1989 كان هناك 1.8 طالباً من اللاذقية، وفي مقابل كل أستاذ ثانوي كان هناك 1.7 أستاذاً، وهذا من دون أن يفوتنا ان اللاذقية ومنطقتها تعدّان 6 في المئة من اجمالي السكان فيما دمشق ومنطقتها تعدّان 11.4 في المئة. ويُلحظ، كذلك، ان عدد الفلاحين الحزبيين انخفض في السبعينات والثمانينات، اذ لم يشكلوا في 1974 الا 25.1 في المئة من الحزبيين لتهبط نسبتهم الى 12.4 في 1989. وهذا ما يعكس جزئياً انخفاض نسبة السوريين العاملين في الزراعة بين هاتين السنتين من 53 في المئة من مجموع السكان الناشطين اقتصادياً الى 22.9. وهي وجهة عبّرت عنها الهجرة الريفية المتعاظمة التي اطلقتها ندرة الأمطار، وتدهور نوعية التربة، وتزايد الاعتماد على الآلة، والمردود الأعلى لوظائف أخرى، وانفتاح أبواب العمالة الموسمية في ليبيا والخليج. غير أنه منذ 1989 حصلت هجرة مضادة من المدن والبلدات الى القرى، هي التي تفسر عودة نسبة العاملين في الزراعة الى الارتفاع في 1991 الى 28 في المئة من مجموع الناشطين اقتصاديا، ومن ثم ارتفاع نسبة الفلاحين في الجسم الحزبي عام 1992 الى 13 في المئة. وإذا كان يصعب الجزم بصحة العواطف المنسوبة الى الفلاحين حيال البعث وحكمه، يبقى أن تحسن أوضاع الكثيرين منهم ممن باتوا، منذ 1958، يملكون أرضاً، وتغير مكانتهم الاجتماعية، وتطبيق درجة أعلى من المكننة في الزراعة، وتوسع رقعة الخبرات التقنية، والتقدم الذي حصل في التعليم ومكافحة الأمية في الريف، عملت جميعاً على تليين المعارضة الفلاحية للبعث وحكمه. غير أن حافظ الأسد هو أول حاكم لسورية الحديثة الذي يرد من مصدر ريفي، وهو فخور بذلك يعيد التذكير به. لكن العنصر الثقافي في ارتباطه بالتكوين السوسيولوجي هو ما لا يتغلب عليه، أو يلطّفه، احراز السلطة. وأصلاً لم يصدر اعتناق الأسد اليافع للبعث في 1947 إلا عن هذا المركّب المتداخل، حيث تلازم التأثر بالوضع الاجتماعي بالتأثر بمأساة عرب لواء اكسندرونة الذي الحقته تركيا في 1938 بها. واللاجئون من اللواء هؤلاء هم الذين شكلوا العمود الفقري لبعثيي منطقة اللاذقية عهدذاك. وكان أحد قيادييهم، وأحد قياديي البعث لاحقاً، الدكتور وهيب الغانم، مَن لعب الدور الأنشط في نشر البعث في المنطقة المذكورة، لا سيما في الثانوية التي كان الأسد يدرس فيها. وفي المقابل كان الدور العام الأول الذي ارتبط باسم الأسد الشاب مشاركته في المعركة التي خيضت ضد شركة التبغ الفرنسية الاحتكارية المكروهة من الفلاحين ومزارعي التبغ هناك. بعد هذه اللوحة التي يرسمها بطاطو، نراه يقفز بشكل غير مبرر تماماً الى الجوانب العسكرية والسياسية والاقليمية، لينتقل الى حرب تشرين بصفتها تعويضاً عن حرب حزيران وانجازاً لشعبية الأسد، انجازاً تحول مأزقاً بسبب انعطافة السادات الاقليمية لغير مصلحته. لكن، مرة أخرى، ورغم الاجتياح الاسرائيلي للبنان في 1982، عاد الأسد وانتصر في بيروت. ويسفّ الكتاب اذ يقارن بين التجارب العربية وبين أميركا وبريطانيا لناحية الافتقار الى الديموقراطية!، الا انه يعود الى ما هو متوقع من بطاطو اذ يحلل هرم السلطة في سورية، متناولاً من ثم علاقة النظام بالتجار وبالمعارضة وبالعراق وبالعروبة وبالفلسطينيين. وهذا النصف الأخير من الكتاب، وهو ما يصعب تناوله لأسباب يسهل على اللبيب تقديرها، يحمل الكثير من الاشارات والتحليلات المفيدة، إلا أنه يبدو أقرب الى لصق عدد من المحاضرات الجامعية، قبل لصقها مجتمعةً بالنصف الأول. وربما كان تماسك تحليل بطاطو السوسيولوجي، الذي يكاد يبدو أحياناً بمثابة حتمية سوسيولوجية، هو ما أجاز له اشتقاق الجوانب جميعاًً من "مقدماتها" في مركّب الاقتصاد والمناطق والقرابات. ويبقى ثمة غائبون أساسيون عن تحليل بطاطو لسياسة الأسد الاقليمية: فلبنان والسادات وعلاقات دمشق بموسكو والرياض، لا تحضر الا كهمزات وصل بقضايا ومسائل أخرى اختار التوقف عندها. ويمكن، بدرجة أقل، قول الشيء نفسه عن العلاقة بطهران. والحال ان اسم حنا بطاطو سبق له ان ارتبط بكتاب مرجعي عن العراق أحزاباً وطبقات قديمة وجديدة. وربما كان الكتاب هذا، مع عمل أو عملين آخرين، من أهم وأثمن ما خلّفته الأكاديمية العربية في الجامعات الغربية. فبقياس كتابه عن العراق، يخسر كتابه الجديد عن سورية، مع أنه يقدم مساهمة صار صعباً من دونها درس التاريخ السوري الحديث. * كاتب ومعلّق لبناني.