التصور المسبق عن محتوى العمل الابداعي قد يجعلك تتخذ موقفاً عدائياً منه قبل ان تراه او تقرأه، لمجرد أن هذا التصور الذي قد يثبت خطأه يتعارض مع توجهاتك الفكرية. هذا ما حدث معي بالفعل وأنا اقف متحفزاً على باب دار العرض استعداداً لمشاهدة فيلم "عبود على الحدود" للمخرج شريف عرفة، رافعاً حاجبي الايسر لأعلى على غرار اشرار السينما المصرية في الاربعينات والخمسينات، ادخن بشراهة معتذراً لرأسي عما سيصيبه من بلاء خلال الساعتين المقبلتين. بمجرد أن بدأ عبود.. تمكنت من القذف بتصوري المسبق، لأتابع الفيلم وفقا لما تمليه الشاشة وليس وفقاً لبوصلة افكاري. البداية بمشهد الخناقة الكاريكاتورية بين حسن حسني عبده ومحمد يوسف زكريا. الاول رجل جيش متقاعد يؤلف كتاباً عن الحروب، عبارات رنانة جوفاء تعكس الخلل في هذه الشخصية المتسلطة التي لا تخلو من خفة ظل. والثاني الصديق المنصاع الذي يكتب ما يمليه عبده على الآلة الكاتبة رغم عدم اقتناعه بما يكتب. يبدأ شريف عرفة اللعبة كاشفاً "الكارت" الاول انطلاقاً من الحوار تجربة احمد عبدالله الاولى في السينما وتوجيه حسن حسني لأداء مبالغ فيه OVER ACT.. في المشهد التالي يقدم عرفة شخصياته الرئيسية.. سعيد أحمد حلمي الذي يعمل في كوافير حريمي، منصور كريم عبدالعزيز وهو ابن لترزي حريمي، ومن مشهد احتراق شعر السيدة في الكوافير الى مشهد المقاسات من المشاهد التي تفتقد خفة الظل في اتيليه والد منصور.. يظل مشهد تقديم شخصية عبود علاء ولي الدين الاكثر تأثيراً وبداية تفجر الضحك.. عبود يقف خلف مطرب له صوت قبيح ويردد خلفه اغنية شهيرة قولي عملك ايه.. قلبي وحوله شخص طويل وآخر قصير يحملان وجهين مضحكين اجاد عرفة اختيارهما.. يعترض عبود على صوت المطرب فيغير من كلمات الاغنية. تتوالى المعطيات، وتنمو نبته عرفة/ احمد عبدالله تدريجياً نمواً سليماً، شلة الاصدقاء.. الموتوسيكل.. البانجو. وهنا تقفز اولى ملاحظاتي السلبية.. استخدام قاموس البانجو طوال احداث الفيلم في ظاهره التحذير ونقد الظاهرة، وفي باطنه العزف على مشاعر جمهور الشباب من الحرفيين الذين شاهدت فرحتهم ومدى تجاوبهم عندما رأوا قاموسهم السري مجسداً في حوار فيلم عبود... لست ضد استخدام هذه الكلمات في حوار الافلام ولا اي كلمات اخرى ولكن اعتراضي ينصب على السياق الاخلاقي الذي قد يكون مخادعاً من اجل ذر الغبار في العيون. وتجرنا هذه الملاحظة الى اشكالية اخرى وقع فيها الفيلم وهي محاولة اقحام مضمون بشكل متعسف، فالخط الدرامي الخاص بالعصابة التي تزرع مخدر بانجو، واضفاء اسم اجنبي تومي على رئيسها، بالاضافة لملابسه الغريبة وشعره الذي ينتهي بذيل الحصان هل تتذكر شكل فاروق الفيشاوي في فيلم "فتاة من اسرائيل"؟ كل هذا من اجل الاشارة الى القوى الخارجية من اليهود والاميركان التي قد تكون متوهمة والتي تتربص بمصر وشبابها وترغب في تدميرهم عن طريق المخدرات. لسنا بصدد مناقشة جدية هذا الطرح، ولكن من المؤكد أن عبود.. ليس الارض الخصبة لهذه الاطروحات، وليس من الضروري إلباس الفيلم ثوباً من الجدية او تحميله بقضية أو هم ليكون فيلماً جيداً. وإذا افترضنا ان هذا الخط اضيف من اجل خلق صراع درامي، فاعتقد ان احمد عبدالله كان جديراً بالعثور على خط درامي آخر ونقطة صراع اكثر اتساقا مع روح الفيلم. لقد اوقع بعض النقاد صناع الافلام في هذه المأزق، فالبعض ضد ان تكون الكوميديا مجرد كوميديا فقط، بل اشترطوا اضافة توصيف اخر مثل كوميديا هادفة، كوميديا اجتماعية الى آخر هذه الميول التوصيفية والتصنيفية، حتى لو اضطررنا لاضافة توصيف ما، فما العيب لو قلنا كوميديا ممتعة أو كوميديا مسلية وهو ما يتوافر بالفعل في عبود... إذا عدنا لنتابع الاحداث في عبود.. سنستمتع بنسج خيوط العلاقة بين الاب عبده وابنه عبود، فدائما ما نراهما يلعبان لعبة القط والفأر، وهو الشكل العصري للعلاقة بين اب وابنه بمنطق الفيلم / الفانتازيا وليس بمنطق الواقع. الاب يفكر في الزواج والانجاب من اجل ان يربي عبود ويخلق منه رجلا.. عبود يحاول افساد الزواج بادعاء اعوجاج سلوك الاب فيزداد اهل العروس تمسكا به، في نفس المشهد يستخدم عرفة التماثل كوسيلة بصرية لخلق الضحك، فنرى صفاً كاملاً من الرجال يمسكون الشيشة بين ايديهم وفي مشهد آخر داخل محل الكوافير نرى الاصدقاء الثلاثة عبود وسعيد ومنصور يجلسون بشكل متماثل اسفل مصفف الشعر الكهربائي وهم يدخنون البانجو. يتزوج الاب وينجب في اختزال زمني شديد الذكاء، كما اننا لم نر وجه العروس طوال الفيلم. فهذا الرداء الاسود لم يكن سوى مفتاح آخر لتفجير الكوميديا. يحاول عبود الحصول على اعفاء طبي من دخول الجيش بسبب وزنه الزائد، ولكن والده - استكمالا للعبة القط والفأر - ينجح في تعطيله عن الذهاب الى اللجنة الطبية حتى لو زج به في خناقة مع سائق تاكسي. تتدفق الاحداث ويلتحق عبود بمركز التدريب مع صديقيه، ولكي تزداد الكوميديا احكاما يلتحق بالصاعقة حيث التدريبات الشاقة التي يعجز جسم عبود عن القيام بها فيؤديها بطريقته الخاصة المضحكة جداً وليس بطريقة اسماعيل ياسين. لقد حاول بعض النقاد مرارا عقد مقارنة بين اداء علاء ولي الدين وأداء اسماعيل ياسين وكذلك بين شريف عرفة وفطين عبدالوهاب لمجرد ان عبود.. احداثه تدور في معسكرات الجنود مما احالهم لسلسلة الافلام الشهيرة اسماعيل ياسين في... واعتقد ان المقارنة ظالمة لكل الاطراف بسبب الفارق الزمني الذي يفصل بين الجيلين بما يزيد عن 40 عاماً كانت كفيلة بتغيير شكل الكوميديا وشكل التقنية، حتى لو انطلق عمل جديد من فكرة قديمة كثيرا ما يحدث هذا في كل اشكال الفنون فهذا لا يعني تبعية الاول للثاني، ولا يعني حتمية المقارنة بين العملين والتي لو انعقدت لن تزيد عن الاطار الخارجي لهما. لقد اجتهد علاء ولي الدين كثيراً، وهو بصدد تقديم شخصية عبود، على مستوى الاداء الحركي، وتعبيرات الوجه، والافيهات النكات اللفظية وسرعة البديهة، وقوة الحضور، بل وكراقص ايضا بفضل براعة شريف عرفة. وبرز الى جانبه ايضا الممثلان الشابان كريم عبدالعزيز واحمد حلمي بخفة ظلهما، لقد نجح عرفة في محاولة ضخ الدماء بوجوه شابة تملأ الشاشة بالحيوية. اما الاختبار الاصعب فقد خاضه الممثل الشاب محمود عبد المغني الذي لعب دور وهدان الشاب الصعيدي الذي يدخل الجيش لكي يحارب ويأخذ بثأر ابيه. صعوبة الدور ترجع الى نمطيته وتكراره في العديد من الاعمال والصعوبة الثانية تكمن في كونه الشاب الناطق بالحكمة، فهو صاحب الدم الثقيل في مواجهة الشباب الروش المتمثل في عبود وشلته، واعتقد ان عبد المغني قد نجح في الاختبار، واستطاع ان يجدف ببراعة ضد امواج النمطية والحكمة. اما غادة عادل في دور جميلة فقد افتقدت الدفء المفترض في هذه التركيبة من الشخصيات، وإذا اصرت على ان تكمل في نفس الطريق التمثيل فعليها ببذل تدريبات شاقة وطويلة لكي تطور من ادائها. مهندس الديكور ومصمم الملابس محمود بركة تضافرت جهوده مع مدير التصوير امين ابو المكارم لصنع صورة جميلة، سواء في المشاهد الداخلية منزل عبود - الكوافير - الكباريه أو في المشاهد الخارجية معسكرات الجيش - صحراء سيناء الخلابة وجبالها والتي كانت جزءاً لا يتجزأ من الحدث. اما ما حققه شريف عرفة في عبود.. فيفوق ما حققه من قبل تحت أية لافتة اخرى الصراع بين الشعب والسلطة ذوبان البطل الفرد في صفوف الجماعة ما جعل هذا الفيلم من اكثر محاولات عرفة اقترابا من شكل يخصه ليعلي الكوميديا - الفانتازيا على اي ايديولوجيات مفرغة ولا يدينه ان تكون الكوميديا للمتعة. وعلى الرغم من سلبياته القليلة يظل عبود.. متقدماً في سباق الكوميديا المحموم والاكثر امتاعاً بأقل قدر من الافتعال، ليثبت لي خطأ تصوري المسبق، ويطيح به فأنا خرجت من دار العرض والابتسامة لا تفارقني.