كل المؤشرات كانت تؤكد أن التغييرات التي وعد بها الرئيس حسني مبارك قبل الاستفتاء على ولايته الرابعة وبعده ستكون كبيرة. لكن الحديث عن "التغيير المنتظر"، وكثرة الشائعات والتخمينات والتكهنات، وما إلى ذلك لم تكن لتصل الى حد أن تتسع دائرة التغيير لتطال رئيس الحكومة السابق الدكتور كمال الجنزوري. وكلما تحدث مبارك عن "تغيير كبير" كان الأمر يترجم على أنه يقصد ان عدداً غير قليل من الوزراء سيتركون مواقعهم، في حكومة مقبلة يتولاها الجنزوري. والمؤكد أن مبارك لم يقض شهراً كاملاً في استراحة في مدينة برج العرب الساحلية بعيداً عن ضجيج القاهرة وتفادياً لمحاولات البعض "تلميع" اسماء بعينها لمجرد أن يختار الدكتور عاطف عبيد رئيساً للوزراء. فاسم الأخير ظل مطروحاً لتولي المهمة في كل تشكيل وزاري منذ دخل الوزارة للمرة الأولى في 1984، وعلى الأرجح كانت فترة إعادة التقويم التي قام بها الرئيس المصري تركزت على استبعاد الجنزوري أكثر من اختيار بديل له. وحينما خرجت صحيفتا "الجمهورية" القريبة من مؤسسة الرئاسة و"مايو" الناطقة باسم الحزب الوطني الحاكم بتقرير نشر في الصحيفتين الاثنين الماضي تضمن انتقاداً حاداً للجنزوري وحكومته، لم يتعرض له رئيس الوزراء المستقيل ربما منذ دخل الوزارة كوزير للتخطيط العام 1984، بدا جلياً أن الحديث عن "تغيير كبير" كان المقصود به ان الدائرة تتسع الى درجة رئيس الوزراء نفسه. والطريقة التي ابعد بها الجنزوري مثلت مفاجأة، إذ خالفت تماماً ما اتبع مع كل رؤساء الوزارات التي شكلت في عهد مبارك، إذ بقي الدكتور فؤاد محيي الدين في منصبه حتى وفاته، وجاء الفريق كمال حسن علي ليكون العسكري الوحيد الذي شكل حكومة في عهد مبارك، وظل على رأسها الى أن اصيب بمرض السرطان وصار غير قادر على الاستمرار. وحل محله الدكتور علي لطفي الذي لم يبق في الموقع سوى 431 يوماً، وعلى رغم قصر مدة وزارته وما يعكس فشلها في أداء المهمات المكلفة بها، إلا أن لطفي كُرم عند خروجه وعُين رئيساً لمجلس الشورى بعدما حل محله الدكتور عاطف صدقي الذي شكل ثلاث وزارات وظل في منصبه أكثر من تسع سنوات. وحينما ترك منصبه اختار له مبارك مركزاً شرفياً تكريماً له وأسند إليه مهمة ادارة المجالس القومية المتخصصة التي يتولى خبراؤها مهمة إعداد التقارير والابحاث والدراسات العلمية لترفع الى الرئيس مباشرة لتعينه على اتخاذ القرار في بعض القضايا المهمة، لكن الحال اختلف مع الجنزوري. وعلى رغم أن خطاب قبول الاستقالة الذي وجهه مبارك الى رئيس الوزراء المستقيل تضمن عبارات شكر للجهد الذي بذلته الوزارة إلا أن كلمات المجاملة تدخل في إطار الامور البروتوكولية ولا يمكن ان تخفي وطأة الطريقة التي أبعد بها الجنزوري. وهناك تحليلات ذهبت الى ان ارتفاع أسهم الجنزوري خلال الأشهر الماضية، وما قيل عن محاولات ربط المشاريع الكبرى التي بدأ تنفيذها في عهده مثل مشروع توشكى وشرق التفريعه وترعة السلام وخليج السويس به شخصياً، وتسريبات خرجت من مكتبه عن احتمال تعيينه نائباً لرئيس الجمهورية، كل ذلك مجتمعاً كان وراء ابعاده "من بؤرة الضوء". لكن لا يمكن التغاضي عن معلومات واشاعات رشحت آخرين لموقع نائب الرئيس أيضاً ولا يمكن القول إن كل من ترشحه الاشاعات ليشغل المنصب الخالي منذ بداية عهد مبارك يكون مصيره الإبعاد. لكن القرييين من أصحاب المناصب المهمة ورجال الاعمال والنفوذ لم يكن ليخفوا استياءهم من اداء حكومة الجنزوري. وإذ كانت الصحف القومية تركت للمعارضة مهمة انتقاد الجنزوري عندما كان في رئاسة الحكومة، فإنها دخلت على خط الحملة عليه حالما تأكد أنه لم يظفر بتشكيل الحكومة المقبلة. ولم يكن ظهور الجنزوري في شكل دائم في وسائل الاعلام وطريقته الفريدة في حفظ الارقام وعرضها على الرئيس ليخفي ما كان يجري بعيداً عن الاضواء. فخلافات الوزراء طغت الى درجة تنازع الاختصاصات والتلاسن وتمرير المعلومات التي تسيء إليهم، ولأن مجلس الوزراء المستقيل كان يضم بين اعضائه وزراء فرضوا على الجنزوري وآخرين اعتبروا الملفات المسؤولين عنها تتبع مؤسسة الرئاسة مباشرة، فإن الجنزوري فشل في حل الخلافات ولجأ إلى اعتماد أسلوب "اللجان الوزارية" فشكل عشرات منها تضم كل واحدة وزراء ومسؤولين في مواقع اخرى وأناط بكل منها متابعة قطاع أو موضوع أو مشروع معين بعدما أيقن ان المناقشات داخل اجتماعات الوزارة قد تحول دون الاتفاق على قرار واحد. وهكذا كانت كل الخيوط تنتهي عند رئيس الوزراء في عصر اللامركزية. ولعل ذلك هو الذي دفع مبارك الى التشديد في خطاب التكليف الى عبيد على ضرورة ادارة العمل في مجلس الوزارة "بروح الفريق الواحد"، كما أن بعض رجال الاعمال والمسؤولين رأوا أن الجنزوري عطل عملية الاسراع بتخصيص بعض شركات القطاع العام والمصانع الحكومية، فجاء مبارك بمن بدأ العملية كي يكملها ويضع السياسات التي تعينه على إتمامها من دون قيود، خصوصاً بعدما لاحظت الدولة ان مشكلة الآثار الاجتماعية المترتبة على تطبيق سياسة التخصيص لم تكن بالدرجة التي حذر منها البعض. فغالبية العمال والموظفين الذين خيروا ما بين الاستمرار في العمل في الشركات والمصانع المباعة من دون حوافز مالية أو الاستقالة مع الحصول على تعويض مالي غير قليل فضلوا الحل الثاني وفرحوا بما حصلوا عليه ودخلوا الى السوق كتجار أو اصحاب مشاريع صغيرة. والمؤكد أن الأزمة العنيفة التي مر بها سوق النقد المصري أخيراً وارتفاع اسعار الدولار وانخفاض السيولة لدى المصارف، وحال الركود الذي اصاب الاسواق اسباب اضافية وراء إبعاد الجنزوري. وفي هذا السياق لا يمكن التغاضي عن الربط ما بين إبعاده وبين التوجهات نحو اجراء تغييرات كبيرة في القطاع المصرفي. كما لا يمكن تجاهل استقالة رئيس جهاز المحاسبات الدكتور شوقي السيد من موقعه فوراً لدى الاعلان عن إبعاد الجنزوري وتكليف عبيد، فالأول ناصره في قضية بيع فندق "سونستا"، وتبنى وجهة نظره في الاعتراض على عملية البيع التي كان رئيس الوزراء المكلف يتبناها ويشجعها.