يمكن للصراعات الفكرية والسياسية في تاريخ أي حزب من الأحزاب ان تكون عاملاً صحياً ودافعاً لتطور هذه الأحزاب اذا ما أدت الى تجاوز الأزمات والإستفادة من نتائجها والتغلب على عقبات تطورها وأدائها الصحيح في المسار السياسي الذي تعيشه. لقد اندفعت مثل هذه الصراعات الى الظهور في أكثر من مرحلة من تاريخ الأحزاب العربية، وتركت أثراً كبيراً على البنية التنظيمية وتوجهاتها اللاحقة، ولم تنحصر هذه الصراعات في حزب او اتجاه واحد، وانما كانت عامة حسب المرحلة التاريخية والظروف المتباينة التي يعيشها هذا الحزب او ذاك. وفي سورية، يمكن ملاحظة ذلك في أكثر من مرحلة من تاريخ الأحزاب والقوى السياسية، خصوصاً في الفترة التالية لاستقلال سورية وتنامي الإهتمام بالقضايا القومية والوطنية والديموقراطية، الشيء الذي انعكس على سيرورة هذه الأحزاب ومستقبلها. وفي محاولة لحصر العوامل الأساسية للصراعات المختلفة والأزمات الحادة نكتشف انها تكمن في العوامل التالية: أولاً: العامل الفكري و"الفقهي والتعاطي مع مسألة التجديد في القضايا المتغيرة. ثانياً: العامل التنظيمي الداخلي، وطريقة الأداء الديموقراطي الناظم للعلاقة بين الأعضاء في الحزب الواحد وبين الأعضاء وقيادتهم. ثالثاً: الخلافات السياسية ومسألة التحالفات. يضاف الى هذه العوامل الثلاثة، عامل رابع كثيراً ما أثيرت الأزمات حوله، وهو المتعلق بمسألة المستجدات التي تنشأ بين حين وآخر على اكثر من صعيد، وكثيراً ما وضعت هذه المستجدات وحدة هذا الحزب او ذاك على المحك! ان استنتاج هذه العوامل يكون سهلاً وواضحاً عندما نراجع تجارب أهم الحركات السياسية الاسلامية: حركة الاخوان المسلمين، وتجارب الاتجاهات القومية وعلى رأسها حركة القوميين العرب وحزب البعث العربي الاشتراكي تاريخياً والناصريين والوحدويين الاشتراكيين تجارب قريبة بالاضافة الى تجربة الشيوعيين والاشتراكيين العرب في سورية. وهذه المراجعة تجعلنا نكتشف أهمية وغنى تجارب هذه الأحزاب والقوى وأهمية دراسة عوامل الوحدة والصراع فيها. ولا بد من الاعتراف هنا ان الشيوعيين كانوا الأكثر علانية وجدية في كشف عوامل الصراع والوحدة في صفوفهم. وهذا ما تلمسناه خلال الأزمات الفكرية والسياسية والتنظيمية التي شكلت الاستقطاب التاريخي حول أسماء خالد بكداش ورياض الترك ومراد يوسف ويوسف الفيصل. لكن اعترافنا هذا يأتي بغض النظر عن تعاطينا مع مسألة قوة او ضعف أو تشتت هذه الاتجاهات نتيجة تلك الصراعات. وفي الواقع، بامكاننا اكتشاف تراث واسع وغني من الحوار النظري والسياسي والتنظيمي حول ذلك يمكن ان تستفيد منه القوى والاتجاهات الأخرى، لأن نتائج ودروس أي تجربة لا يمكن ان تكون حكراً على أصحاب التجربة فقط! وعيانياً يمكن ملاحظة وتتبع الأزمات والصراعات التي مر بها الشيوعيون والناصريون والاشتراكيون العرب وحركة الاخوان المسلمين لنكتشف أنه لا بد من وضع السبل المناسبة للاستفادة من هذه الأزمات في تطوير حركية الحياة السياسية وتعاطيها مع المستجدات التي تبدو أكبر وأخطر في هذه المرحلة. ان الملامح العامة لما حصل مع هذه الاتجاهات وتنظيماتها، ومن خلال ما تمكنا من الاطلاع عليه، تؤكد ان ثمة أسباباً وعوامل متشابهة وقريبة من بعضها البعض ساعدت على قيام هذه الأزمات ووضعتها في الطريق المسدود، ومن تلك الملامح: أ- المماطلة والبطء في التعاطي مع المستجدات والحقائق المهمة والمصيرية، ممايفسح المجال لتفشي ظاهرات غير صحية يمكن ان تؤدي الى الشرذمة والتقوقع والتحصن خلف آراء قد لا تكون صحيحة لأنها لم تنشأ عن حوار صحي، وقد تساهم بالتالي في إضعاف أدوات التحليل والمعالجة المطلوبة. ب- عدم وجود اسس وممارسات ديموقراطية تنظيمية صحيحة عند بعض هذه القوى حسب كتابات لأقطابها لإتاحة الفرصة للحوار بين مجموع المشاركين في الحزب الواحد، وبينهم وبين قياداتهم، وبينهم وبين الأحزاب الأخرى، بل بينهم وبين الجماهير التي انكفأت عنهم، ولم تعد ترفدهم بدم جديد قادر على التغيير! واذا وجدت تلك الأسس الديموقراطية، فانها غالباً ما تكون مجرد نواظم مجمدة، أو مجرد بنود متوالية مطبوعة على شكل أنظمة داخلية، لكنها غير منفذة. وهذا ما أدى الى نشوء حجة اشكالية جديدة يتم الحديث عنها في الأزمات هي: حال خرق النظام الداخلي! ج- وجود حالات استقطاب وولاء غير صحي بين الأعضاء في القواعد الحزبية والأعضاء في القيادات على مختلف الصعد. وكان هذا عاملاً مساعداً باستمرار على حدوث انشقاقات سريعة وعمودية في هذه الأحزاب. د- ضعف العامل التثقيفي الحزبي وعدم هضمه البرامج السياسية للدفاع عنها عند الحاجة، والاكتفاء بالولاء الشخصي الذي غالباً ما كان عاملاً مدمراً للبناء التنظيمي والحزبي. ه - تغليب المصلحة الشخصية على المصلحة العامة. والعامة هنا تعني: الحزب/ البرنامج. ويستعاض عنها ب: الفائدة او الغنيمة الشخصية حسب ما جاء في احدى وجهات النظر. وقد حاولت الأحزاب التي تعرضت لمثل هذه الأزمات تدارك ما حصل، وسعت اكثر من جهة لإعادة التوفيق بين الانقسامات، وتوحيد القوى بدل حالة التجزئة التي وقعت فيها، فنجحت في بعض الحالات عندما جرى تدخل من قيادة حزب البعث بأزمات الناصريين والشيوعيين. لكن أزمات اخرى لم يتم تداركها. لهذا نرى الآن اكثر من فصيل شيوعي، وأكثر من اتجاه ناصري وحزبين للوحدويين الاشتراكيين وحزبين للاشتراكيين العرب. وهذا عدا الانقسامات الحاصلة في القوى الموجودة خارج الحكم!