الكلام الاميركي الذي رافق وزير الدفاع وليام كوهين في زيارته لمنطقة الخليج والشرق الاوسط عن توسيع القواعد الاميركية وامكانيات تعزيز المخازن والمعدات العسكرية في القواعد البحرية والبرية يفيد بأن الولاياتالمتحدة تفكر في كيفية تخفيف عدد قواتها ونقل وجودها العسكري الظاهري فيما يتم تعزيز التواجد العسكري مؤسساتياً وبصورة فاعلة. تحقيق هذه الغايات يتطلب التطرّق الى فرض الحظر الجوي عسكرياً في شمال العراق وجنوبه والذي يستلزم اعداداً كبيرة من القوات الاميركية ويساهم في احراج الحكومات المجاورة للعراق. أوحت تصريحات كوهين بأن واشنطن قد لا تستمر في فرض حظر الطيران اذا صدر عن مجلس الامن قرار يعود بموجبه المفتشون الدوليون الى العراق وتُعلّق العقوبات بشروط وظروف مقبولة لديها. انما من الخطأ التسرع في الاستنتاج بأن واشنطن في حاجة الى مخرج وتتهيأ لقفزات نوعية. انها تفكر في خيارات قد لا تكون سوى تمهيدية الى ما بعد الانتخابات الرئاسية. السياسة الامنية الاميركية في منطقة الخليج متماسكة يدخل العراق فيها فقط من منطلق استمرار احتوائه لمنعه من تهديد الجيران. المنطق السائد في الاوساط الاميركية الفكرية والسياسية هو ان العراق لا يشكّل اليوم خطراً جدياً على جيرانه او على المصالح الاميركية، الا ان ضرورة ابقائه في هذه الخانة تستلزم بقاء التواجد العسكري الاميركي في المنطقة. فالقرار الاستراتيجي يقوم على تعزيز العلاقة الامنية في المنطقة ببقاء التواجد العسكري الاميركي. واي من الطروحات الواردة في تصريحات وزير الدفاع الاميركي وقائد القيادة المركزية، الجنرال انطوني زيني، تدخل في اطار التكتيك وليس الاستراتيجية الدائمة. زيني تحدث عن فكرة ما يسمى Prepositioning اي تخزين المعدات والمواد والمستلزمات العسكرية بما يسمح بارسال 300 ألف عسكري بسرعة اذا برزت الحاجة. واوضح ان الفكرة العامة ان يتم التخزين الإضافي ليس في القواعد البرية وانما في مياه الخليج اضافة الى التخزين القائم في الكويت وقطر. ربط كوهين ليس فقط بين عودة المفتشين الدوليين والرقابة البعيدة المدى لبرامج التسلح وبين مصير العقوبات، وانما بين نزع السلاح وسياسة فرض حظر الطيران. يحدد مشروع القرار البريطاني - الهولندي شروط وظروف تعليق العقوبات على العراق ويربط بين نزع السلاح وتعليق العقوبات دون ان يأتي على ذكر منطقتي حظر الطيران. كوهين، لدى ردّه على سؤال ان كانت واشنطن تسعى وراء اضافة التهديد باستخدام القوة العسكرية في حال عدم امتثال العراق للقرار البريطاني - الهولندي قال: "نعتقد ان الاقتراح الحالي… له الفرص الاكبر للحصول على موافقة" من مجلس الامن "انما، ما لم يتم تبني ذلك القرار او شيء قريب جداً منه، عندئذ سنمضي بالعقوبات الموجودة وبمنطقتي حظر الطيران". هذا كلام ملفت لأن السياسة الاميركية نحو العراق باتت في ايادي البنتاغون، وليس اعتباطياً ان يذكر المسؤول الرئيسي عن هذه السياسة مصير فرض حظر الطيران في شمال العراق وجنوبه لدى حديثه عن مشروع قرار في شأن متطلبات نزع السلاح وتعليق العقوبات. الملفت ايضاً ما جاء على لسان وزير الدفاع البريطاني الجديد، جوزف هون، اثناء زيارة له الى القاهرة هذا الاسبوع، بأن الاطاحة بالرئيس العراقي صدام حسين ليست على "اجندة" الحكومة البريطانية، حسبما نقلت عنه وكالة الانباء الفرنسية، وان افضل السبل للعراق هو سبيل الديموقراطية واجراء انتخابات رئاسية عادلة. الولاياتالمتحدةوبريطانيا شريكتان في اكثر من ملف دولي، بينها العراق، وهما تفرضان عسكرياً حظر الطيران بدون صلاحية من مجلس الامن الدولي. المسؤولون البريطانيون الذين اشترطوا عدم ذكر اسمائهم قالوا غير مرة ان بريطانيا تفترق مع الولاياتالمتحدة في سياستها المعلنة القائمة على اطاحة النظام واستبداله، والسفير البريطاني لدى الاممالمتحدة السير جيرومي غرينستاك ابلغ ذلك الى السفير العراقي سعيد حسن الموسوي، عندما اجتمعا قبل شهور عندما طرحت بريطانيا مشروع قرارها. كذلك ان السياسة البريطانية اكثر رغبة بتيسير تعليق العقوبات على العراق من السياسة الاميركية. لهذه الاسباب ان التداخل والتضارب بين تصريحات وزيري الدفاع الاميركي والبريطاني ملفتة وتطرح اكثر من سؤال، سيما وان المواقف الروسية والصينية والفرنسية الى درجة اقل، تطرح التساؤلات في شأن مصير منطقتي حظر الطيران واستمرار العمليات العسكرية البريطانية - الاميركية في حال وافق مجلس الامن على مشروع قرار تعليق العقوبات. ان أساس منطقتي حظر الطيران القانوني، في الرأيين الاميركي والبريطاني، هو القرار 688 الذي طالب الحكومة العراقية بالتوقف عن قمع الشيعة في الجنوب والاكراد في الشمال ولا علاقة لذلك القرار بنزع السلاح على الاطلاق. ولذا فإن ربط وزير الدفاع الاميركي بين نزع السلاح وبين منطقتي حظر الطيران يطرح اسئلة سيما وان منطق الربط يفترض ان يكون بين منطقتي حظر الطيران والمعارضة العراقية التي كانت على وشك الاجتماع في نيويورك عندما ادلى كوهين بتصريحاته. قراءة البعض لهذا الموقف هي ان السياسة الاميركية في موضوع العراق لها طابع "استعراضي" وتفتقد "الجدية" نحو المعارضة العراقية، وانها مطاطية. والاهم، ان كلام كوهين وزيني يعني استنتاج المسؤولين الاميركيين بأن العراق لا يشكل اليوم خطراً جدياً يقتضي "جاهزية" عالية والدرجة نفسها من التهيؤ. قراءة البعض الآخر لكلام كوهين وزيني هي انه يدخل في صميم الحديث القائم اميركياً في شأن "شكل" التواجد الاميركي العسكري في المنطقة، "بظاهرية"، اقل، و"بحساسية" اكثر نحو دول المنطقة، وبطريقة تضمن فاعلية هذا التواجد وتعزيزه "مؤسساتياً" دون الاضطرار للكلفة المالية والبشرية العالية لهذا التواجد. فميزانية السنة 1997/1998 خصصت 700 مليون دولار للعملية في الخليج منها 400 مليون لمنطقتي حظر الطيران اضيف اليها مبلغ 1.4 بليون لتغطية نفقات القوات الاضافية الاميركية التي ارسلت تشرن الثاني نوفمبر 1997. ومع السياسة الجديدة التي بدأت في كانون الاول ديسمبر الماضي وتشمل مضاعفة العمليات العسكرية في منطقتي حظر الطيران فإن الكلفة تضاعفت بأضعاف. خبيرة السياسة الاميركية الامنية في الخليج، راشيل برونسون تعد دراسة ل"مجلس العلاقات الخارجية" في نيويورك عن هذه السياسة. وفي رأيها، ان المشكلة الاساسية التي تعرقل اهداف تخفيض عدد الجنود والكلفة والاحراج هي منطقتي حظر الطيران،. "وطالما ان الولاياتالمتحدة تقوم بعمليات عسكرية في هاتين المنطقتين، فإن التخفيض غير ممكن". بحث الولاياتالمتحدة عن "نوع جديد" من التواجد العسكري في المنطقة "لا يعني ابداً ان الولاياتالمتحدة ستغادر المنطقة"، حسب برونسون، وانما يعني ان هناك الآن "تفكير تطلعي"، في متطلبات "ترسيخ" التواجد العسكري بصورة "اقل ظاهرية وازعاجاً" انها "عملية بحث عن حلول… بعدما زجت الادارة الاميركية نفسها في زاوية" فرض منطقتي حظر الطيران، تقول برونسون، وتسرع الى الاضافة "ان البحث في حلول لا يعني التسرّع الى اي حل… واي تغيير مستبعد قبل العملية الانتخابية". كيف تستفيد بغداد من التقاطع بين المواقف الاميركية - البريطانية ومؤشرات احتمال استعداد الادارة الاميركية للتوقف عن فرض حظر الطيران عسكرياً في شمال العراق وجنوبه؟ تتمسك بعنفوان الثعلب، بلا تفاعل، وبغياب كامل عن الفرص والنوافذ المتاحة. الرئيس العراقي يتعهد بمحاربة "القوى الشريرة بالسكاكين…". وقهرها على الارض ان لم تطل الاسلحة العراقية الطائرات، وتعليماته لاستطلاع امكانيات التعددية في العراق في اطار دستور جديد تحصر تشكيل الاحزاب المؤهلة في شرط ان تكون "مؤيدة ومتماشية مع حزب البعث العظيم". ثم هناك نبأ قرار القيادة القومية، بتوجيه من صدام حسين، فتح معسكرات تدريب عسكري للبعثيين والناصريين والقوميين من مختلف البلدان بما فيها مصر والاردن والامارات. مصر التي تعارض فرض منطقتي حظر الطيران والضربات العسكرية الاميركية، والامارات التي تدعو تكراراً الى انهاء العقوبات على العراق، والاردن الذي اخذ ملكه مبادرة الطلب من العراق ان كان لديه رسالة الى الولاياتالمتحدة قبيل توجهه الى واشنطن فذهب نائب رئيس الوزراء السيد طارق عزيز بها الى عمان. لو كان التفكير في بغداد عقلانياً لما صدرت هذه المواقف والقرارات ولاتخذت بدلاً عنها بغداد مبادرة التوجه الى بريطانيا للاستفادة حتى من هامش بسيط يميز مواقفها عن المواقف الاميركية. لو كان التفكير في بغداد عملياً لما استمر القرار العراقي برفضه اعطاء اي من العقود المسموح بها بوجب القرار 986 الى اية شركة اميركية في الوقت الذي جعلت فيها ايران وليبيا التعامل مع الشركات الاميركية وسيلة ضغط لاجراء تغيير على السياسات الاميركية، ونجحتا. ولو كان التفكير في بغداد واقعياً لما ازداد التشدد والتصلّب وكأن العراق طرف اساسي في لعبة مهمة فيما هو في الواقع خارج كل لعبة. البعض يصف الموقف العراقي بأنه نابع من "القدرية" وكأن بغداد تعتقد انه كُتبَ لها ان تكون على عداء دائم مع الولاياتالمتحدةوبريطانيا. واقع الامر انها عقلية الحصار التي تتسم بها القرارات في بغداد. والحصار المعني داخلي وليس الحصار الخارجي، ذلك ان التشبث بالرهانات الخاسرة يعمي عن الفرص المتاحة.