بدا السيد فاروق حسني وزير الثقافة المصري، بعد أن ضمه التشكيل الوزاري الجديد، اكثر اصراراًً على تنفيذ مشروع "باب العزب"، واتضح ذلك في تقدمه اخيراً بطعن على حكم صدر من مجلس الدولة المصري في 27 ايلول سبتمبر الماضي بوقف المشروع نفسه. تقوم فكرة مشروع "باب العزب" على استغلال جزء من قلعة صلاح الدين في القاهرة استثمارياً من خلال ثلاثة قطاعات: الاول يتضمن انشاء مدارس حرفية لترميم الآثار وتعليم فنونها مع تجهيزها بالمعامل والآلات اللازمة لها، وانشاء متحف لتاريخ مصر من عصر الفراعنة الى العصر الحديث. والثاني يشمل اقامة مركز للأبحاث وقاعة للمؤتمرات، وكذلك اقامة ورش وقاعات مؤتمرات صغيرة ومكتبة، وتحويل مبنى قائم الى فندق يضم مئة غرفة. اما القطاع الثالث فيشمل اقامة محلات وورش للحرفيين ومطعم واماكن لممارسة الانشطة اليدوية ومنافذ مخصصة لبيع منتجات هذه الانشطة. ويتبقى الجزء المتمثل في بقايا القصر الابلق الذي بوشر تحويله الى متحف لابواب القاهرة الاسلامية. ويطرح المعارضون لهذا المشروع انتقادات جوهرية له، وفي مقدم هؤلاء الدكتور صالح لمعي عضو المجلس الدولي للآثار الذي يرى ضرورة مراعاة قانون حماية الآثار المصري وميثاق البندقية في مجال الحفاظ والصيانة والترميم، وكذلك توصيات مؤتمر اليونسكو في لاهور للآثار الاسلامية، وميثاق واشنطن في مجال الحفاظ على المدن التاريخية، وهو ما لا يتوافر في مشروع باب العزب. ويقول لمعي أن الادعاء بان منطقة "باب العزب" عانت طويلاً من الاهمال، خصوصاً في فترة الاحتلال الانكليزي وما صاحبها من اقامة مبانٍ غير ملائمة، ليس مبرراً لتغيير الملامح الاساسية للمنطقة داخل اسوار القلعة. ويشير الى ان جامع السلطان الظاهر بيبرس في منطقة "الظاهر" في القاهرة في نهاية القرن الثامن عشر، استعملته الحملة الفرنسية ثكنة عسكرية ثم بعد ذلك مصنعاً للصابون في عهد محمد علي، ثم استعمل مذبحاً لقوات الاحتلال الانكليزي لمصر... الى ان قدر للجنة حفظ الآثار العربية في الثلاثينات تسجيله في عداد الآثار ووضعت مشروعاً نموذجياً للحفاظ عليه لم ينفذ الى اليوم. ويؤكد لمعي أن اسلوب اعادة الاستخدام للمباني الاثرية مطلوب كأحد العوامل الاساسية للصيانة، الا أن ذلك يجب ان يكون مناسباً، وان اي اضافة في المناطق الاثرية يجب ان تكون بصفة موقتة وقابلة للازالة. ويلاحظ انه لا جدوى من القطاع الاول في المشروع الخاص بالمدارس الحرفية لترميم الآثار، مع وجود مدرسة ثانوية صناعية متخصصة في تخريج فنيين لترميم الآثار تحظى باشراف مشترك بين المجلس الاعلى المصري للآثار ووزارة التعليم المصرية، ونسبة كبيرة من خريجيها بلا عمل بعد تخرجهم منها. اما الشق الثاني من المشروع، والذي يتضمن إنشاء متحف لتاريخ مصر من العصر الفرعوني وحتى العصر الحديث، فيوجد مثيل له يتبناه المجلس الاعلى للاثار برعاية اليونسكو، هو مشروع متحف الحضارة الذي لم يشهد حتى الآن سوى خطوة واحدة للامام تمثلت في اختيار موقع له قرب مدينة الفسطاط الاثرية. ومن ثم يحق التساؤل: ما جدوى تشييد متحفين متماثلين في مدينة واحدة؟ وبالنسبة الى اقامة مركز للابحاث، فأن قلعة صلاح الدين تضم حالياً مركزين من هذا النوع هما: مركز الدراسات الاثرية، ومركز تسجيل الاثار. وكلاهما مهمل، لكن يمكن تنشيطهما بدلاً من انشاء مركز ثالث قد يكون مصيره الاهمال ايضاً. اما انشاء المكتبة، فيلاحظ ان المتاحف المصرية جميعاً تضم مكتبات مهملة على رغم كون مكتبتي المتحف المصري ومتحف الفن الاسلامي تضمان مراجع وكتباً نادرة. ويبقى في هذا القطاع استغلال أحد المباني القائمة كفندق. وهذا الاقتراح هو صلب اعتراض الاثريين والمثقفين المصريين، اذ انه يخالف العديد من مواد قانون حماية الاثار المصري، فضلاً عن كونه سابقة قد تتيح في ما بعد إقامة فندق بين هرمي خوفو ومنكاورع، وهو ما سيثير ليس الرأي العام المصري وحده بل ايضاً الرأي العام الدولي على مصر. اما القطاع الثالث والخاص بالحرف اليدوية، فيتعارض مع وجود معهد للحرف الاثرية اليدوية تابع للمجلس الاعلى للآثار يحتاج ايضاً الى تفعيل دوره ورفع كفاءة القائمين عليه، وهذا أجدى من إنشاء معهد جديد. والجدير بالذكر ان منطقة باب العزب تشغل سبعة هكتارات من مساحة قلعة صلاح الدين. وخلال اثني عشر عاماً، هي فترة تولي فاروق حسني وزارة الثقافة، احتدمت المعارك الصحافية والقضائية بين الوزير وخصومه حول هذا المشروع. ولا بد لنا من أن نبّين أن الذين حول الوزير اقنعوه بأن منطقة باب العزب لا تعتبر جزءاً من القلعة بل هي خارجها. وفي اطروحتي للدكتوراه توصلت الى نتيجة مفادها ان منطقة باب العزب هي جزء اصيل من القلعة بدأ تشييده في عصر صلاح الدين الايوبي وانتهى في عصر السلطان الكامل، ليكون مقراً لخيول السلطان وجنده. وفي العصر المملوكي تحول الى مقر لدار العدل وجلوس السلطان في المناسبات الرسمية، وفي العصر العثماني صار مقراً لجند العزب العثمانيين، وفي عصر محمد علي استغل كأول منطقة للصناعات الحربية في مصر. ولذلك فهو، بفراغاته التي بين الآثار الشاخصة، ينطبق عليه قانون حماية الاثار. ولما كانت هناك تراكمات حضارية واثرية، فيجب قبل الحديث عن تطوير منطقة "باب العزب" اجراء حفائر اثرية فيها، فان لم تسفر عن شيء يمكن عندها التحرك بطريقة مختلفة. وفي هذا الشأن تجب ملاحظة ان حفائر العام 1986 كشفت عن قطع اثرية في الممر الصخري في المنطقة مودعة حالياً في متحف الفن الاسلامي. ويجب ان يكون تطوير المنطقة في اطار مشروع علمي هو حصيلة مؤتمر تشارك فيه الاطراف كافة، وتناقش دراسات تطوير المنطقة. ويجب ان لا ننسى ان قلعة صلاح الدين ظلت لسنوات مقراً لحكم مصر منذ العصر الايوبي وحتى عصر الخديو اسماعيل، ولذلك جاء منطوق حكم مجلس الدولة المصري بوقف المشروع قاسياً لأن المشروع يمس جزءاً مهماً من تاريخ مصر وحضارتها، اذ ذكر "أنه من المؤسف أن يأتي العدوان على آثار مصر من هيئة الآثار المؤتمنة على المحافظة عليها. وكان عليها اذا ارتأت اقامة اية مشاريع مرتبطة بمنطقة اثرية وترى انها ستؤدي الى جذب سياحي وثقافي أن تقيم هذه المنشآت في بقعة بعيدة عن حرم الآثار". وعلى رغم هذا الحكم، فيجب ان نحسب لفاروق حسني انه اول من فكّر في استغلال هذه المنطقة المهملة، وان معارضيه عارضوا فقط ولم يقدموا بديلاً. لقد جاء مشروع فاروق حسني ناقصاً، إذ نظر الى استغلال جانب واحد هو جزء من القلعة ونسي ان حول القلعة مبانٍ عشوائية يقوم المجلس الاعلى للآثار في حال تهدم احدها بمنع بنائه حتى تتاح في المستقبل رؤية القلعة من جهاتها الست بوضوح، علماً بأن القلعة تقع في اكبر ميدان اثري في العالم، ومع ذلك لم يفكر أحد لا في المجلس الاعلى للاثار ولا في محافظة القاهرة في استغلاله سياحياً، بل استبعد من مشروع تطوير القاهرة التاريخية من دون مبرر.