في معرض جوابه عن سؤال محاورته، رلى الزين، عما يراه "حقيقة" ويراه الإسرائيليون على وجه آخر، يقول السيد الياس صنبر، رئيس تحرير "مجلة الدراسات الفلسطينية" الفرنسية وأحد مفاوضي المفاوضات المتعددة الأطراف وكاتب دراسة تاريخية في "إجلاء" الفلسطينيين: "يرى أو لا يرى، هذا لا يهمني. الأمر الذي أعرفه هو أنني، بعد أسبوع، أصبحت لاجئاً، وهو، بعد أسبوع، جلس في بيتي. أنا دخلت في الغياب وهو أصبح حاضراً" "الحياة"، ملحق "تيارات"، في 14 حزيران / يونيو 1998. ويبني المتكلم على قضيته هذه، أو حكمه، في الجوهر والخلاف، ما يصح ربما أن يسمى منهاجاً أو طريقة: "ليس هناك شيء اسمه رواية موضوعية. في التاريخ توجد الرواية الحقيقية وما حصل" أو: "لما حصل"؟. وعلى هذا فلا مسوغ لرواية التاريخ، أو لكتابته وسرده، ولا لنقد الروايات ومقارنتها. لكن مثل هذه التطرف أو الغلو في الرأي والطريقة لا يصحان إلا إذا خص "المؤرخ" بهما موضوعاً بعينه، وانتخبه موضوع "تأريخه"، أو إظهاره "ما حصل"، وإعلانه إياه، وإخراجه على الملأ إخراجاً مفحماً لا يحتمل الجواب بغير نعم أو لا. و"موضوع" السيد صنبر، وهو يكره حال "الموضوع" "الضحية ليست سوى موضوع... الضحية ليست طرفاً"، فلنقل: و"طرف" السيد صنبر هو ما يأتلف من الأسئلة التالية: "هل هناك بلد اختفى عن الخريطة أم لا؟ هل هناك شعب أصبح دون جنسية أم لا؟ هل هناك 400 قرية مُحيت عن سطح الأرض أم لا؟ هل هناك 800 ألف لاجئ في المخيمات، وقتئذ، أم لا؟". فإذا اجتمع من هذه الأسئلة "طرف" - هو "ضحية" محض على رغم أنه ليس "موضوعاً"، و"لا علاقة" له على ما تصوره هذه "المسائل" "بنظرة ذاتية للأمور" - اقتصر التأريخ له على نعم، مكررة أربع مرات لا تزيد مرة واحدة. فما يحتمل الاقتصار على "ما حصل"، على المعنى الجاف الذي لا يقبل التأريخُ الطرفي معنى جائزاً غيره، إنما هو "الإجلاء"، أو الطرد. أي ما كتب فيه المتكلم. وهي كتابة نافلة من بعض وجوهها، إن لم تكن نافلة من كل وجوهها. فلو قيض للحادثة المفردة، أي الفرد، على ما يؤديها كلام السيد صنبر على "الأسبوع" و"الحضور" و"الغياب" و"الجلوس" و"أنا" و"هو" - لو قيض لها من يصورها في شريط سينمائي واحد، مبثوث العدسات في كل "نقاط انطلاق" التهجير أو "التفريغ"، وفي وقت واحد بل في ثانية واحدة هي الوقت الذي استغرقته الحادثة الفرد، لأسكت الفلسطيني، فالمؤرخ، كل دعوى تأريخية تنزع إلى مطِّ "الإجلاء" وإطالته إلى "نقاش حول: لماذا حصل؟ ما هي الأسباب؟". أما ولم يقيض للحادثة الفرد هذا النوع من التدوين والتسجيل في مدونات وسجلات ناطقة من غير واسطة، ولا تأويل، ولا نقاش، اضطر "الطرف"، أو اضطر المتكلم باسمه، إلى إنشاء الحادثة إنشاء "جديداً" لا يختلف عن نشأتها وحدوثها في شيء. فيجلوها حاضرة، اليوم، وبعد خمسين عاماً "وهذا الذي حدد تنظيم الندوة في 13 و14 أيار / مايو الماضي"، وكأنها لم تمض ولم ينقضِ عليها الزمن، "هذا الذي أخنى على لُبَد" وعجز البيت ليس من السيد صنبر. فإذا قرأ القارئ، بعد هذا أو قبله، أن المتكلم يشترط على الإسرائيليين "اعترافاً معنوياً بالجريمة التي ارتكبت في 1948" شرطاً "لتبدأ قضية العودة والتفاوض حولها"، لم يفهم "ماذا يحصل"، على قول المتحدث وعلى حسب فهمه للفهم ومثاله. وعلة ضعف الفهم، عدا قصور القارئ، علتان: أولى مردها إلى غموض العبارة بعد جلاء، إذ ما معنى ابتداء "قضية العودة"؟ وأين يفاوض مفاوضون عليها؟ ومع من؟ وإلى أين العودة؟ ومن هم العائدون؟ - وثانية مصدرها الفرق بين تشخيص الواقعة وبين جواز المفاوضة عليها، والاقتصار على "الاعتراف المعنوي" شرطاً للمفاوضة. فإذا صح أن ما "حصل" في 1948، في نفسه ومنقطعاً عما سبقه وعما تبعه ومن جهة الضحية وطرفها، هو جريمة فَقْد "هذا البلد، فجأة وفي غفلة، شعبه واسمه ودخوله في الغياب"، لم يجز لا للسيد إيلي صنبر ولا لغيره أن "ىبدأ العودة"، ونفترض أن إيهام العبارة لم يجبِّ المعنى ولم يطفئه، ويفاوض عليها، ولو بعد ألف اعتراف معنوي بجرائم الأرض كلها. وهذا ما تقوله "حماس" ويتابعها عليه "الجهاد" وآخرون. وإذا جاز للسيد صنبر، ولمن هم مثله وحالهم حاله، أن يطلب الإقرار بالجريمة من المجرمين، والمصابين ب"انفصام الشخصية"، و"المنتصرين" و"المتعصبين القبليين" الإسرائيليين، وأصحاب "المشروع التفريغي"، إلخ، باسم الفلسطينيين "الضحايا" و"المظلومين"، وجاز التوقع ألا يلقى الطلب إنكاراً فلسطينياً وعربياً، أو طعناً، لم يجز له أن يفاوض لا على "العودة" ولا على غيرها، موهماً من يقرأون قوله، وربما موهماً نفسه، أنه يبني المفاوضة على "الاعتراف" بناءً منطقياً واستدلالياً، أو بناء يقينياً. ولا يشاطر صاحب الزعم اليقيني كثرة من أبناء قومه وجلدته، على خلاف ما يوهِم. فهو يوهِم أن "الإعتراف" تترتب عليه مفاوضة واضحة القواعد والنتائج، يملي فيها البريء المظلوم، والمنقلب منتصراً بقوة الحق وحضوره، على منتصر البارحة، و"السارق" و"الظالم" والكذاب وهذه مضمرة، حقوقه. ولا يملك من هزمه الحق، المتجلي على لسان الفلسطيني المؤرخ، إلا الصدوع لمطاليب الضحية. ويكتم السيد صنبر، مفاوض المفاوضة الموعودة والتالية "الإعتراف"، ما يخبئه للمجرم النادم، والمنقلب مفاوضاً صاغراً ومهزوماً، من شروط كريمة وسخية. وقد لا يكون أقل هذه الشروط حل المجرم من جريمته المزمنة، وتثبيت حيازته "فلسطين"، شريطة بعض الإعترافات الجزئية. لكن هذا الاستباق، ويبعث عليه سكوتُ لابسِ مسوح التأريخ عن "التفاوض على قضية العودة"، ينبغي ألا يصرف عما يشكل على القارئ من كلام المتكلم. فهو يتوقع، بعد استجابة طلب "الاعتراف" الناجز وغير المشروط بولادة إسرائيل من "جريمة" صريحة، مفاوضة غير مشروطة. ويتوقع أن يرضى الفلسطينيون، وهم على قوله فلسطيني واحد هو السيد صنبر أو شبيهه، بمفاوضة تقر الإسرائيليين على سرقتهم وظلمهم المجرم. وجليّ أن المتكلم يتجاوز حد تكليفه وتفويضه. فيكلف من يتكلم باسمهم شططاً، أي مفاوضة واقتساماً سياسيين أنكرهما إنكاراً معظَّماً عند كلامه على التأريخ. وإذا كان إنكاره المفاوضة والقسمة التاريخيتين يضمن له إجماعاً فلسطينياً، و"عربياً" وهو يحرص على هذه الصفة على خلاف فلسطينيي "الداخل" أو بعضهم، فضمانه الإجماع السياسي زعم لا سند له. ولا سند لهذا الزعم لأنه وليد جدل تاريخي، يفضي فيه "الإعتراف" إلى قسمة ظالمة يغسل "الإعتراف" ظلمها أو يعلِّق مفعوله، هو أي الجدل نتاج ترجح مضن وعقيم بين الملاك الخلقي والبهيمة السياسية. ويبدو تجاوز حد التكليف والتفويض، في هذه المسألة، صدى لتجاوز وقائع لا تقل "حقيقية" و"حصولاً" عن "الإجلاء". فالسيد صنبر، إذ يقصر كلامه على "الأسبوع" الذي "أصبح فيه لاجئاً"، و"دخل في الغياب"، و"فقد .. اسمه"، ويستبعد من الفحص ما يسميه "النظرة الذاتية للأمور"، إنما يمعن في الإجتزاء الذاتي. والاجتزاء الذاتي، هذه المرة، فلسطيني، ويعمل مبضعه وسكينه في فلسطين والفلسطينيين. ف"ما حصل" في 1948 لم يحصل إلا لشطر من الفلسطينيين ولجزء من الأراضي الفلسطينية، إذا حُدَّت هذه بما بين البحر المتوسط والنهر الأردن. وإذا ضمت الضفة الشرقية إلى الأراضي الفلسطينية، على ما اقترح تشرتشل في 1920 ولم يقبل الأعيان، تضاءل الجزء وضاق. فلماذا لم يحفظ الشطر المتبقي من الفلسطينيين على الجزء "الحاضر" والثابت والمقيم من الأرض، "اسم" فلسطين و"شعبها" و"اسم" أرضها؟ ولماذا يغفل، أو يتغافل، المؤرخ "الحقيقي"، غير "الموضوعي"، و"الطرفي"، عن نصف "ما حصل"، على رغم هواه التمامَ والكمالَ والكل؟ وعلى هذا - وهذا قد يصاغ على طريقة السيد صنبر: "هل بقي نصف بلد لم يختفِ عن الخريطة أم لا؟ هل هناك ثلث عدد شعب لم يصبح دون جنسية أم لا؟..." - ينبغي القول: إن "الجريمة" الصهيونية هي "نصف جريمة"، ارتكبت في حق "نصف شعب"، و"نصف أرض"، و"نصف إسم"" أو القول: إن "الجريمة" جريمتان، ارتكبت الحركة الوطنية الصهيونية أولاهما وارتكبت الحركة القومية العربية؟ الأخرى. والسيد صنبر لا يقول هذه المقالة ولا تلك. فهو إما مشتط في قوله ومبالغ، أو هو ناكص ومُقِلٌّ. فالكلام الممتلئ حقيقة وواقعاً ومعنى ناجزاً "ماذا حصل سنة 1948؟ ما الذي جرى على الأرض؟" "موضوع 1948... نقطة انطلاق للصراع"، "يمكن فيما بعد، أن يجري النقاش حول: لماذا حصل؟ ما هي الأسباب؟" لا يتصور على هذه الصورة من الإمتلاء والإنجاز والحقيقة إلا من جراء سكوته عن نصف الوقائع، وهو النصف المتبقي الذي يفترض فيه أن يحفظ "الإسم" ويرعى ويتولى بعض "الشعب" وبعض "الأرض". وهذا بعض ما يحرج السيد صنبر، فيهرب من حرجه إلى الإغضاء على وجه وجهة، وإلى تعظيم آخر وجه وجهة أخرى فكأنهما كل الوجه وكل الجهات. وما يحرجه، من وجه ثانٍ، أو ينبغي أن يحرجه، هو "اقتصار" الجريمة الصهيونية على جزءٍ من فلسطين، وشطر من "شعبها". فلماذا لم يتطاول الإجلاء، أو "التفريغ"، إلى الجزء التوراتي من الأرض، إلى "يهودا والسامرة"؟ بل لماذا لم يبدأا بهذا الجزء؟ ولماذا "انتظرت" الصهيونية، وهي لم يكن في مقابلتها ونظيرها، وبحيالها، إلا "ضحية" عزلاء، بكماء، لا حول لها ولا طول، إلى عام 1967 لتستكمل احتلالها؟ ولماذا لم تعمد، وهي المدججة بالسلاح وبالصهيونية وبالرغبة "التفريغية"، شأنها في "1948" أو خرافتها، إلى "التفريغ"؟ ربما ينبغي، قبل المضي على مناقشة السيد صنبر، القول إن هذه الأسئلة وغيرها لا يترتب عليها ترك سؤال السيد صنبر: ماذا حصل، على وجه الدقة، في 1948؟ بل يترتب عليها توسيع السؤال إلى: كيف حصل هذا، على هذا النحو، وعلى هذا القدر؟ ولماذا حصل على هذا النحو، وعلى هذا القدر، وبهذا الموضع وذاك؟ وماذا سبقه وآذن به؟ وماذا لحقه وترتب عليه؟ ومن أي الطرق والسبل؟ أي ان ما تنكره هذه المناقشة على السيد صنبر، وعلى طريقته المضمرة في تعريف ما يتناوله التأريخ تعريفاً موجباً، هو جملة مزاعمه في حدِّه "موضوعه"، واطراحه، متعسفاً، حملَ الموضوع على رسوم أو حدود أخرى. وما تنكره هذه المناقشة أشد الإنكار هو زعم الرجل الصدور عن "ما حصل" حين يعمد، في ذروة زعمه هذا، إلى تقطيع "ما حصل" قطعاً، وإقطاعه قطائع. فمن الجلي أن الرجل لا يشك لحظة واحدة في صدور مقالته عن جهة، وليس عن كل الجهات. ولا يشك لحظة واحدة في أن "الكل" - وهو فكرة على معنى كانط: يُسعى فيها ابتغاء جمع ما لا يحضر الفهمَ والذهنَ إلا متفرقاً، لكنها لا تُدرك إدراك عين - لا يشك في أن "الكل" طوع يده ورأيه وحكمه. ومالك "الكل" ديّان يوم الدين، اليوم الآخر، الهيغيلي. ولعل هذا هو السبب في اصطفاء الفلسطيني فالمؤرخ "1948"، وفي إنشائه غرض تأريخه على النحو الذي ينشئه عليه، بينما ينكر إتيانه كل إنشاء، ويدعي مباشرة "ما حصل" خالصاً ومجرداً من كل زيادة "ذاتية". فهو يحسب أنه ينتصر في "حرب الحقيقة"، اليوم، ويرد "معنوياً" ما خسره في عام 1948، ويهزم "معنوياً" المنتصر المادي في 1948، إذا أقر الأفرقاء بأن الموضوع المتنازع هو الحادثة الفرد التي انقض فيها مجرم ظالم وسارق، في ليلة ليلاء "فجأة وفي غفلة"، على ضحية مظلومة. فسند "التأريخ"، على هذه الشاكلة، وسند "حقيقته"، هو لحظة واحدة تعصى القول، وتمتنع من المعنى والفهم والعقل. وتوجز هذه اللحظة، الخاطفة والبارقة، جوهر التاريخ، كل تاريخ فيستقوي السيد صنبر بها ويصوغ "قوانين" تاريخية يوشيِّ بها مقالته. وقوامها "التقاء" المجرم والضحية، وجبه المجرم الضحية حين يرتكب جريمته. وهي لحظة فارغة. فهي تؤرخ لخروج الضحية من التاريخ" وهي ابتداء بكم الضحية وسكوتها وتركها رواية اللحظة لظالمها وسيدها. فإذا تكلم المنتصر والسيد نطق كذباً وهراءً. أما الضحية فتراكم، في الأثناء، صمتاً يضيق به صدرها "على مستوى الأشخاص يوجد نبع من المعلومات لأن مئات آلاف الفلسطينيين الذي عاشوا تلك الأحداث لا يزالون على قيد الحياة ويحملون رواية الهزيمة ورواية النكبة"، وينطق بحق صراح ومقيم خارج اللغة وخارج البيان. فالحق الذي ينشده "فلسطيني 1948" لا يُشاطَر ، ولا يشارك فيه أحد. وقد لا يكون من قبيل المصادفة وحدها "موت آلاف الأشخاص الذين حملوا شهادات عن أحداث ثورة 1936 - 1939 ولم يسجل منها إلا القليل، وفي حالات محددة" ف"الناس يموتون وقد اختفى معظم هذا الجيل. بالنسبة لأحداث ال48، نواجه اليوم الوضع ذاته. فبعد جيل أو جيلين، ستختفي أيضاً الشهادات المتعلقة بها". فالسؤال الذي وُضع على حادثة فرد، وعلى لحظة منقطعة مما سبقها وتلاها، وعلى "ضحية" ليس بينها وبين "المجرم" قاسم مشترك، ليس خُلْفاً ألا يؤدي إلى رواية ولو "داخلية". ولا عجب إذا أسكت هذا السؤال حتى من يزعم التصدي للوقائع باسمهم. فهو، في صيغة السؤال، يدحرج على أفواه المتكلمين والرواة المحتملين أحجار "ما حصل" الجازمة والثقيلة. فماذا يقول "مئات آلاف الفلسطينيين الذين عاشوا تلك الأحداث" غير ما يعرفه السيد صنبر ورفاقه: "اضطهاد، ظلم، منفى"، على ما يقول. فشأنهم إنما هو شأن مذهوبي "تاريخ الجنون" ومدخوليه، حظهم وحَدُّهم هما "استحالة التاريخ"، على قول ميشال فوكو في مقدمة الطبعة الأولى من كتابه. والتاريخ مستحيل، أو محال، حيث يحل التكرار والراداد ويستقرا: "اضطهاد، ظلم، منفى". وعلى هذا يبني المتحدث "قوانينه التاريخية العامة" هو يكتب بالمفرد: "المنتصر يكتب دائماً روايته للأحداث ويمليها على الرأي العام"" "كل تاريخ منتصر عندهم رواية سائدة"" "الضحية ليست سوى موضوع، إما موضوع اضطهاد أو موضوع شفقة، أو موضوع دراسة. الضحية ليست طرفاً"" "لا وجود في التاريخ لأي شخصية كتبت تفاصيل الجريمة قبل ارتكابها أو أمرت بها بوضوح"... وهذا هراء يكاد يكون محضاً لولا ترديده صدى تعاسة عميقة يشي بها "عدوان" المتحدث المعنوي على المؤرخين الإسرائيليين وترجحه بين إعجاب مكتوم وضغينة معلنة. فمهما بلغت مقالات أهل السيطرة، على ما يسميهم ماكس فيبر، من التماسك والتراص فهي تشي، من أطراف خفية وغير خفية، بما تريد إغفاله والسكوت عنه. وعلى هذا "قرأ" بعض أئمة المقهورين "قوة" العمل المصادرة في قانون القيمة "البورجوازي"، أو ليس اللاشعور هو المحذوف والمسكوت عنه من كلام "الآخر" في كلامي أنا وفي عبارتي؟ ألسنا، هو وأنا، نحتكم إلى داعي البيان، فيقوم الداعي المشترك هذا مقام السبب في الحقيقة التي يبيِّن عنها نكوصنا في مضمار بلوغها وطلبها والحج إليها؟ وإذا عدنا إلى مناقشتنا وجب السؤال عما حمل مؤرخين إسرائيليين يهوداً على تناول نشأة كيانهم السياسي، ووطنهم، وشعبهم، والفحص عما سكت عنه "الأوائل". فهم يعزون فحصهم هذ إلى قتال الفلسطينيين جيشهم وأهلهم، قبل غزو جيشهم لبنان في 1982، وإلى هذا الغزو. وتعود يقظة بعض الإسرائيليين على ما يقصر تناوله على "جدد" اليوم، الى عام 1967، واجتياح العصبية المهدوية شطراً من الإسرائيليين. فإذا صح هذا، وترجح صحته، كذبت "قوانين" السيد إيلي صنبر، وتداعت محاولته حمل "النكبة" على "المحرقة" في بعض صورها ومحاكاته الواحدة بالأخرى. فپ"الضحية" ليست على حال واحدة من البراءة. وإذا أوكل "مثقفوها" إلى أنفسهم الكلام الحاسم والقاطع باسمها، لم يعدموا أن يوكلوا إلى أنفسهم البت في ما يجوز الكلام فيه ويحسن السكوت عنه. فنصبوا أنفسهم رقباء وحسباء على مراتب الجرم وعلى مراتب الظلم و"المظلومية"، على ترك الخمينيون القول. أو لم يسوغ معظم الفلسطينيين ما ارتكبوه في حق اللبنانيين بحسبتهم المزعومة؟ أو لم يسكت كل المثقفين الفلسطينيين عن هذا الارتكاب بذريعة مظلوميتهم؟ لكن هذا يخرج عن "1948". * كاتب لبناني