في اقل من ثلاثة اشهر على اعتلائه عرش البلاد، بدا واضحا ان العاهل المغربي الملك محمد السادس مهتم بمعاودة عقارب الساعة الى التوقيت المحلي، وساعد في تكريس هذا التوجه - الذي يقول عنه المسؤولون المغاربة انه لا يرتدي طابع الانعزال وانما اعادة ترتيب البيت المغربي - انتكاس المساعي التي بذلت لأحداث انفراج ايجابي في العلاقة بين المغرب والجزائر، وطرح المزيد من علامات الاستفهام حول افاق الاتحاد المغاربي، اضافة الى عدم حدوث اختراق في محور العلاقات المغربية الافريقية، وتحديدا على صعيد استعادة المغرب لدوره في منظمة الوحدة الافريقية الذي لا زال يعتريه سوء التفاهم منذ اعتراف المنظمة القارية ب"الجمهورية الصحراوية" عام 1984. في أولويات المرحلة بالنسبة للعهد الجديد حرص الملك محمد السادس على تأكيد التزامه قيام دولة الحق والقانون في مفهومها الشامل في اول خطاب للعرش في نهاية يوليوز تموز الماضي، وترجم ذلك عمليا عبر مبادرات عدة، فقد امر بتشكيل لجنة مستقلة لدرس التعويضات التي ستدفعها الدولة لذوي المفقودين والمعتقلين السياسيين بعد نقاش طويل حول نوعية الاضرار التي طاولت هؤلاء، وسمح في غضون ذلك للمعارض ابراهام السرفاتي المتحدر من اصول يهودية بالعودة الى المغرب من منفاه في باريس، دون اللجوء الى صيغة سابقة كانت ترهن ذلك بصدور حكم قضائي لجهة ثبوت حمله الجنسية المغربية بعد ترحيله من البلاد بدعوى انه برازيلي، وتوقعت مصادر حقوقية امتدادا لذلك ان يفيد الشيخ عبدالسلام ياسين زعيم جماعة العدل والاحسان المحظورة الموجود رهن الاقامة الجبرية من هذه التطورات، وذهبت نفس المصادر الى توقع عودة منفيين ينتسبون الى تيارات اسلامية او يسارية متشددة، ويشرح مسؤول مغربي هذه التطورات بالقول "مادام لايوجد خلاف على الثوابت، فانه لا معنى لاقصاء اي شخص او تيار من المشاركة السياسية"، واذا كان صدور العفو السياسي الذي اقره الملك الراحل الحسن الثاني في صيف 1994 اقترن بالدعوة الى الاهتمام بالامازيغية عبر السماح بتدريسها وتقديم نشرات اخبارية في التلفزيون بمختلف لهجاتها، فان الاعتقاد السائد ان الملك محمد السادس قد يقدم على مبادرة جريئة في هذا النطاق لاعادة الاعتبار للامازيغية، اقله على المستوى الثقافي، خصوصا في ضوء تزايد طلبات التنظيمات الامازيغية باحلالها مكانة بارزة في الفسيفساء المغربية، كون السكان المتحدرين من اصول امازيغية يشكلون نسبة عالية في التركيبة الديموغرافية. يذهب ديبلوماسيون اجانب الى القول ان الاجراءات التي اتخذها الملك محمد السادس لتحسين سجل المغرب في ميدان حقوق الانسان ذات ارتباط بالاعداد لفتح صفحة جديدة في هذا النطاق، بهدف تجاوز الانتقادات التي كانت توجهها اطراف خارجية ومنظمات تعنى بالدفاع عن حقوق الانسان الى المغرب، فقد اصبحت الطريق سالكة امام امكان استضافة المغرب مؤتمر منظمة العفو الدولية التي اثير حوله جدل واسع بعد نشرها تقريرا تضمن مؤاخذات في الملف، وفي نفس الوقت اعطى دفعة جديدة لحكومة رئيس الوزراء عبدالرحمن اليوسفي التي انتقدها بعض الاوساط ازاء بطء العمل الذي تلتزمه في هذا النطاق، لكن بعض المصادر السياسية ترى ان هذه الاجراءات تروم معاودة ترتيب البيت السياسي، خصوصا لجهة قيام نوع من التوازن في الخريطة السياسية، ورأت تنظيمات يسارية ان هذه التطورات تسمح بامكان تشكيل تيار سياسي ذي ميول يسارية قد تلتف حوله تنظيمات حزبية صغيرة. وجرت لهذه الغاية مشاورات بين فاعليات سياسية ترغب في الافادة من الوضع الراهن لقيام كتلة سياسية معارضة استعدادا للاستحقاقات القادمة، ويسود اعتقاد ان حزب الطليعة المنشق عن الاتحاد الاشتراكي في بداية الثمانينات يمكن ان يتحول الى مركز لاستقطاب هذه الاحزاب التي يلتقي معها نظريا، وفي الامكان توقع حدوث تطور في مساره السياسي، لجهة الانجذاب نحو المشاركة السياسية بعد ان كان يقاطع الاستحقاقات السابقة . بيد ان الاهم في رصد هذه الاولويات ان العاهل المغربي حرص على تجديد الثقة في حكومة رئيس الوزراء السيد عبدالرحمن اليوسفي بهدف اكمال الولاية النيابية الراهنة، وعلى رغم انه لم يستخدم الاطار الدستوري في معاودة منحها الثقة واكتفى بالاعلان عن ذلك عبر اول مجلس وزاري رأسه بعد رحيل الملك الحسن الثاني، فالثابت ان نزوع رئيس الوزراء الى معاودة طرح برنامج جديد لحكومته امام البرلمان يعني السعي نحو ضبط ايقاع الاستمرارية في العلاقة بين الحكومة وملك البلاد، وكان لافتا ان العاهل المغربي تحدث في اول خطاب للعرش عن رئيس الوزراء عبدالرحمن اليوسفي للدلالة على تجديد الثقة، واعتبر اكثر من مراقب مضمون الخطاب الذي وجهه للبرلمان المغربي لدى افتتاحه السنة الاشتراعية الجديدة بمثابة مرجعية ذات ابعاد اقتصادية واجتماعية لتحديد سمات المرحلة. فقد ركز على دور البرلمان في ممارسة الرقابة على الحكومة، وحض الجهاز التنفيذي على التزام الشفافية في ادارة المؤسسات العامة، وكذا تحصيل مستحقات الدولة من الضرائب، ودعا البرلمان الى بلورة اجراءات قانونية لاصلاح التعليم في ضوء خلاصات اللجنة الملكية التي اعدت منظورا شاملا لتلك الاصلاحات. وتقول مصادر رسمية ان برنامج الاصلاحات الاقتصادية والاجتماعية الذي طرحه الملك محمد السادس، خصوصا لجهة تقويم اداء الادارة يرمي الى تحميل نخب سياسية جديدة مسؤوليات في مؤسسسات القطاع العام لترشيد النفقات والافساح في المجال امام جلب الاستثمارات، ويتردد ان قطاعات عدة ستعرف حركة مناقلات واسعة النطاق بعد احالة اعداد كبيرة من الموظفين على المعاش، وبدا واضحا لاكثر من مراقب ان اختيار فريق العمل الى جانب الملك محمد السادس يضم كوادر شابة، ضمنها رفقاء في الدراسة يتحدرون من عائلات بسيطة يعتبر اشارة موجهة الى الحكومة لتجديد الكوادر في القطاعات التي تقع تحت نفوذها، وذهب نواب في البرلمان ومنتسبون لفاعليات سياسية الى المطالبة صراحة بتجديد قيادات الاحزاب الراهنة عبر تسريع عقد المؤتمرات واعتماد منهجية جديدة في العمل السياسي، ما يعني ان وتيرة التغيير التي يقودها ملك البلاد يمكن ان تطاول الاحزاب والنقابات والتنظيمات الموازية. اللافت في سياق المقاربات الجديدة لادارة الملفات المحلية ان الملك محمد السادس اختار القيام بجولات تفقدية لمناطق عدة في البلاد، في مقدمها المحافظات الشمالية والشرقية التي توصف عادة انها كانت عرضة للتهميش وتعاني من مشاكل البطالة ونقص التجهيزات والبنيات الاساسية، لكن الدلالات السياسية لهذا الاختيار تكمن في ان الجولة شملت مناطق ذات حساسية خاصة، ففي المنطقة الشمالية التي كانت موضوع حوار بين المغرب وبلدان الاتحاد الاوروبي للقضاء على زرع وتجارة المخدرات توجد مدينتا سبتة ومليلة اللتين تحتلهما اسبانيا شمال البلاد، ولا زال وضعهما يلقي بظلال قاتمة على العلاقات المغربية الاسبانية كلما طرح المغرب فكرة البحث في مستقبل المدينتين، وفي المنطقة الشرقية على الحدود المشتركة بين المغرب والجزائر لا زالت تداعيات اقفال الحدود سارية المفعول منذ ازيد من خمس سنوات، ضمن ما يترتب على ذلك من كساد تجاري ومن تعرض العلاقات المغربية الجزائرية الى التأزم. وحسب ديبلوماسيين في الرباط فان دلالات الزيارة تكمن في توجيه رسائل الى اسبانيا والجزائر والشركاء الاوروبيين مفادها بالنسبة لاسبانيا وبلدان الاتحاد الاوروبي حرص المغرب على تنمية المحافظات الشمالية والمضي قدما في تنفيذ خطة محاربة المخدرات التي كانت الرباط تعول ضمنها على الحصول على مساعدات اوروبية، ما حداها الى تشكيل مؤسسة اقتصادية للعناية بالمناطق الشمالية، اما بالنسبة للجزائر فالامر يتعلق بالرغبة في تحويل الشريط الحدودي الى مناطق مشتركة للتعاون، لكن انجازها يظل رهن الاتفاق على معاودة فتح الحدود ونفض الغبار عن مشروعات اقتصادية مشتركة تعثرت بسبب الخلافات السياسية بين المغرب والجزائر، وفي سياق رصد تطورات قضية الصحراء اعلن الملك محمد السادس عن عزمه تشكيل لجنة ملكية لشؤون الصحراء، كما استبدل المحافظ الملكف سابقا بالعلاقة مع المينورسو بديبلوماسي من الخارجية ما يعني ادارة الملف من منطلقات جديدة، اقربها الى الاحتمال اشراك الرعايا المتحدرين من اصول صحراوية مباشرة في الاعداد لاستحقاق الاستفتاء، والارجح ان الاحداث الاخيرة التي كانت مدينة العيون عاصمة المحافظات الصحراوية مسرحا لها الشهر الماضي ساعدت في تسريع وتيرة الحوار حول الملفات الاجتماعية والاقتصادية في المنطقة، لكن التطور البارز في هذا السياق يكمن في اعتماد مقاربة جديدة في التعاطي وملف الصحراء تخص من جهة مواصلة التعاون مع الاممالمتحدة لاجراء الاستفتاء المقرر في يوليوز تموز 2000، ومن جهة ثانية ادماج الرعايا في خطة الانفتاح السياسي ومعالجة الملفات الاجتماعية. وحين يسأل المغاربة ان كانت هذه التوجهات تعني معاودة ترتيب الاولويات على حساب القضايا الاقليمية والعربية يجيبون ان انفتاح المغرب في السنوات السابقة على المحيط الاقليمي، وكذا قيامه بدوره اساسي في مسار السلام في الشرق الاوسط، كان ملازما لتطورات سياسية املتها اعتبارات اصبحت الآن متجاوزة، ويستدل على ذلك بان الوساطات التي قام بها المغرب لبدء مسلسل السلام في الشرق الاوسط، كانت جزءا من التزامات هدفت الى تكسير الحواجز السياسية والنفسية، وكذلك الحال بالنسبة لمشروع السلام الاقتصادي في الشرق الاوسط الذي تأثر بسبب تداعيات العثرات السياسية، لكنه يعيد التأكيد ان التعاطي وأزمة الشرق الاوسط سيرتدي بالنسبة للمغرب طابعا جديدا، لجهة تقريب وجهات النظر المتباعدة، لكنه سيبرز حتما في مفاوضات المرحلة النهائية، حول وضع القدس، كون الملك محمد السادس يرأس لجنة القدس المنبثقة عن المؤتمر الاسلامي، ويضيف مصدر رسمي في الرباط ان الملك محمد السادس، على رغم ايلاء عناية اكبر للملفات الداخلية فانه وضع جدولا زمنيا لزيارة الخليج ومنطقة الشرق الاوسط خلال العام القادم، ويعول على ان تندرج الزيارة في سياق احياء الجهود الرامية الى رأب الصدع العربي والانشغال باقامة علاقات تركز على التعاون الاقتصادي، كونها تصمد في مواجهة الهزات السياسية.