الزيارة التي قام بها رئيس الوزراء السويدي يوران بيرسون الى اسرائيل نهاية الأسبوع الماضي، تكتسب اهميتها الخاصة لأكثر من سبب وعامل. فهي اول زيارة لرئيس وزراء سويدي الى الدولة العبرية منذ 1962، رغم العلاقات الممتازة دائماً بين الدولتين، سيما في الأعوام العشر الأخيرة، حيث لعب الزعماء السويديون دوراً ديبلوماسياً فاعلاً في تحقيق المصالحة التاريخية بين منظمة التحرير الفلسطينية واسرائيل، وفي رعاية عملية السلام. لقد اقتصرت الزيارات من الجانب السويدي الى الشرق الأوسط عموماً، على مستوى الوزراء، وبخاصة الخارجية والمساعدات والاقتصاد، حيث لم يمر عام واحد من دون زيارتين او ثلاث. لكن ستوكهولم، في المقابل، تحولت محطة رئيسية للزعماء الاسرائيليين والفلسطينيين على حد سواء في الأعوام الأخيرة، باستثناء بنيامين نتانياهو الذي لم يدع لزيارتها بصورة رسمية، ولم يبادر هو، نظراً لإحساسه ببرودة الاجواء السويدية حياله. و قد عبر عن عدم رضاه، في مناسبات عدة، ازاء المواقف السويدية الميالة للجانب الفلسطيني، بحسب معاييره. ولا شك ان العلاقات فترت كثيراً على المستوى الرسمي والشخصي في فترة نتانياهو، اذ لم يخف السويديون عواطفهم اليسارية مع اليسار الاسرائيلي، ورهانهم على حزب العمل، وانتظارهم عودته الى السلطة. وتعتبر زيارة بيرسون هذه لاسرائيل بمثابة اعلان واضح عن سعادتهم برجوع العمل وسقوط ليكود، وحقنة عاطفية كبيرة للعلاقات الرسمية والشخصية بهدف اعادتها الى ما كانت عليه في أفضل المراحل، لا مجرد العودة بها الى ما كانت عليه في فترة ما قبل ليكود الاخيرة، لأنها في الواقع شهدت بعض الفتور حتى في مرحلة العمل السابقة، وفي العقدين الاخيرين عموماً، بسبب شعور الاسرائيليين الغالب بتنامي تعاطف اصدقائهم القدامى مع الفلسطينيين منذ غزو لبنان عام 1982. وكان من اللافت ان بيرسون قد اعرب قبيل زيارته عن اغتباطه الشخصي بصورة غير معهودة من قبل زعيم دولة، اذ قال حرفياً: انني كنت احلم بهذه الزيارة منذ سنوات طويلة. وهو الى ذلك اصطحب معه زوجته وحرص، ونظيره اليهودي، على اضفاء طابع ودي على لقائهما الرسمي. وقد تعزز هذا الطابع بالاشادة الاسرائيلية، وعلى جميع المستويات، بالمجهود الشخصي الذي قام به بيرسون منذ مجيئه الى رئاسة الحكومة. وهذا ما يسعى الآن الى تعميمه على المستوى الأوروبي كله، كما تدل الحملة التربوية والاعلامية المكثفة المضادة لنسيان وإهمال ذكريات جرائم الابادة العرقية النازية ضد اليهود، وبقية الفئات التي شملتها النازية بسياستها تلك. لقد افتتح بيرسون عهده عام 1997 بمبادرة قومية تقدم بها الى البرلمان باسم "احياء التاريخ" لإعداد كتاب وثائقي وتسجيلي يعرض ويوضح ما تعرض له اليهود خلال الحقبة النازية بين 1933 و1945 بالأرقام والصور والمعلومات وطباعة الكتاب بكل اللغات التي يستخدمها السكان في السويد، وتوزيعه مجاناً وتعميمه على كافة المدارس والجمعيات والأفراد. وقد حدث ذلك بالفعل وكان له تأثيره على الاطفال والطلاب اذ اوصل الرسالة المعنية. خصوصاً وان ذاك ترافق مع سلسلة مؤتمرات وحملات، بنفس الاتجاه ولنفس الغرض، تضمنت ايضاً تشكيل لجنة من العلماء لمراجعة كل ما يتعلق بتلك الحقبة لحسم السجالات الفكرية على المستوى العالمي حول حقيقة ما جرى. وقد طلب بيرسون من الرئيس كلينتون ونظيره البريطاني توني بلير، ان تشترك دولتاهما مع بلاده في هذه العملية، فأبدى الزعيمان تأييدهما للفكرة. وارتبطت كل هذه النشاطات والمبادرات باسم يوران بيرسون شخصياً. لكن هذه الجهود ترافقت مع ما يسمح بتفسير سياسته على انها عودة الى ما قبل عهد الزعيم الراحل اولف بالمه، حيث حقق الوعي السويدي عموماً تحولات حيال فهمه قضايا الصراع في الشرق الأوسط، وهو ما بدأ مع 1967. وهناك من يدعم هذا التقويم مستشهداً بقيام بيرسون بانقلاب عميق في الحكومة ووزارة الخارجية، حيث ابعد عدداً من كبار "المستعربين". لكن يبقى ان الترحيب بسياسات بيرسون ومواقفه اكتسب بعداً آخر مصدره تزامنها مع الفوز الكبير الذي حققه الحزب اليميني المتطرف في النمسا "حزب الحرية"، وما أثاره من مخاوف في الاوساط اليهودية في كل مكان. اذ من الطبيعي ان يرى الاسرائيليون في مبادرة رئيس الوزراء السويدي افضل رد على ذلك الحدث المقلق الذي يعكس جهلاً او استخفافاً بالمأساة التي لم يمض عليها سوى نصف قرن. وتكتسب زيارة ارفع مسؤول سياسي سويدي لاسرائيل اهميتها على صعيد آخر، نتيجة تضافرها مع زيارات قادة دول الشمال الأوروبي. اذ لا يمكن التقليل من مغزى "الهجمة" الديبلوماسية لزعماء الشمال على الشرق الأوسط. فقبل ايام قليلة من وصول بيرسون، كان الرئيس الفنلندي مارتي اهتيساري الطامح للقيام بدور شخصي في مسيرة السلام، قد زار سورية واسرائيل والمناطق الفلسطينية. وقبل الاثنين بأسابيع معدودة كان الزعماء النروجيون يستأنفون دور بلادهم في السير على السكة التي ارساها اتفاق اوسلو 1993. ويعلم جيداً المتخصصون في شؤون هذه المنطقة من أوروبا انه ليس ثمة تنافس سلبي بينها، في مبادراتها الخارجية، وبخاصة على مسرح الشرق الأوسط. بل هناك تنافس ايجابي، يقوم على التنسيق المشترك، وهو تنافس لا يستهدف تعزيز نفوذ سياسي بقدر ما يستهدف خدمة السلام العالمي الذي تؤمن تلك البلدان بأهميته بعمق. فضلاً عن ان السويد وفنلندا، منذ دخلتا الاتحاد الأوروبي، وجدتا مبرراً اضافياً للدور الاسكندينافي هذا، اذ قالتا ان هذا التطور يجعل منهما دولتين محاذيتين لدول الشرق الأوسط. وبحسب دوائر محلية هنا فإن الدول الشمالية تحاول لعب دور جديد على المسارين السوري واللبناني. ومعروف ان الدور الاسكندينافي الديبلوماسي يحظى بترحيب كبير من سائر الاطراف التفاوضية والدولية بما فيها الولاياتالمتحدة. وهو يقوم على قاعدتين، اولاهما المصداقية، والثانية الدعم الاقتصادي حيث تقدم السويد والنروج الحصتين الأكبر من المساهمات الدولية لتنمية المناطق الفلسطينية بالنسبة الى حجم الدخل القومي. وقد قدمتا منذ 1994 وحتى الآن اكثر من ملياري كراون سويدي حوالى 300 مليون دولار. وتترأس النروج صندوق "هولست" للمساعدات الدولية لتنمية السلام، فيما تحتل فلسطين المرتبة الأولى على قائمة الدول التي تحصل على المعونات السويدية، بحسب بيار شوري الوزير المكلف بهذه المساعدات، وهو من اشد المتعاطفين مع القضية الفلسطينية. وتتركز المساعدات التي تمنحها دول الشمال للفلسطينيين على ما يتصل بالبنيات التحتية، كمياه الشرب والكهرباء والاتصالات والمواصلات والبيئة والصحة والتعليم وتدريب الكوادر. ونظراً الى كون تلك المساعدات محددة بخمس سنوات، تنتهي بنهاية العام الجاري، فقد تركزت محادثات بيرسون مع الجانب الفلسطيني على تجديد الدعم الاقتصادي، فاتفقا على تشكيل لجنة مشتركة للبحث والتعاون في المجالات السياسية والاقتصادية، وقال بيرسون ان بلاده "مهتمة بتطوير العلاقات مع الشعب الفلسطيني في كافة المجالات". ويبدو انه اصرّ على ادراج قضية الديموقراطية وحقوق الانسان ضمن جدول الأعمال، لأن السويد تقدم مساعدات سخية للمنظمات الفلسطينية غير الحكومية التي تنشط في هذا المجال. وقد سبق ان غمزت السلطة بصورة غير رسمية من دعمها المعارضة، بينما تعرضت المنظمات لحملات تشهير بسبب تلقيها المساعدات. ويصر الجانب السويدي على الربط بين كل من عملية السلام والتنمية والديموقراطية. وقد زار رئيس الوزراء مدينة بيت لحم، واطلع على المشاريع التي تقوم بها منظمة "سيدا" الخيرية السويدية، لتأهيل المدينة لاستقبال الاحتفالات بالألفية الثالثة، وحرص على مصافحة الاطفال الفلسطينيين في الشارع في ما يبدو انه محاولة للموازنة مع الطابع الانساني والودي الذي اتخذته زيارته لاسرائيل.