"الجالية العربية" عبارة يستعملها الكثيرون للاشارة الى العرب في بريطانيا من دون تحديد دقيق للمقصود بها، لذا من المفيد التساؤل عما اذا كنا نتحدث عن جالية واحدة أم عن جاليات. والبريطانيون من غير العرب الانكليز، الاسكتلنديون، الآسيويون أو الأفارقة في الغالب ينظرون الى العرب على أنهم كتلة بشرية متجانسة وبذا يعتبرونهم جالية واحدة، اما لجهل بالفروقات بين العرب 22 جنسية، ديانات، أصول عرقية... الخ فيحسبون الكل واحداً، واما عن مفهوم عنصري يلصق الكثير من المساوئ بالعرب الارهاب، التخلف، الثراء غير المشروع، المقامرة... الخ وبالتالي فالعرب سواء لاشتراكهم في هذه المساوئ. وفي تقديري ان البريطانيين من غير العرب يميلون عادة لاعتبار العرب جالية واحدة وليس جاليات عربية. اما العرب أنفسهم فينظر البعض منهم الى العرب على أنهم جاليات متعددة غالباً ما تستند الى التصنيف القطري، فهناك الجاليات المصرية واللبنانية والعراقية والمغربية وهكذا. وهناك بطبيعة الحال من ينظر الى العرب على أنهم جالية واحدة، وفي تقديري ان غالبية العرب تميل الى اعتبار العرب جاليات متعددة لا جالية واحدة. وبالإضافة الى ما أوردنا هناك من يعتقد ان العرب جاليات متعددة جغرافياً في بريطانيا نفسها فيتحدث عن الجاليات العربية في لندن، غلاسكو، وبرمنغهام الخ... باعتبارها جاليات متعددة. وموقف البريطانيين على المستوى الشعبي والاعلامي باعتبار العرب جالية واحدة يختلف بل ويتناقض مع الموقف الرسمي البريطاني، فهذا الموقف بصورة عامة وزارة الداخلية، البرلمان، وزارة الخارجية، رئاسة الوزارة، اضافة الى الاحزاب السياسية الرئيسية، لا تعتبر العرب جالية واحدة، بل هناك محاولة لنفي اعتبار العرب "أقلية" معترفاً بها، وأوضح دليل هو ان التقسيم العرقي المستعمل في الاحصاءات الرسمية لا يشير الى "العرب" كأقلية عرقية التقسيم يشير الى الهنود، الآسيويين، الأفارقة، البيض، الكاريبيي الأصل. هذا الموقف الرسمي لا يخدم العرب اطلاقاً بل يضعف مركزهم في بريطانيا في مختلف المجالات بما في ذلك التمثيل والتأثير السياسي والحزبي وتفادي التفرقة العنصرية. وتبعاً لهذا الموقف يمكن الاساءة الى "العرب" في وسائل الاعلام من دون خشية رد فعل، في حين انه لا يمكن الاساءة الى أي مجموعة اخرى كما يساء الى العرب. فمثلاً، لا يمكن الاساءة الى اليونانيين أو الأفارقة أو اليهود مثلاً. وعلى المستوى الاقليمي العربي لا يمكن الاساءة للفلسطينيين أو المغاربة أو العراقيين مثلاً كما يساء اليهم عموماً باعتبارهم "عرباً". والحديث عن الجالية او الجاليات العربية يقصد به المتوطنون في بريطانيا من ذوي الأصول العربية، فهناك العرب المقيمون ممن لا يزالون يحملون جنسية بلد المولد في حين يحمل الآخرون الجنسية البريطانية، ومنهم من يحمل الجنسيتين إن أجاز قانون بلد المولد ذلك. وهناك من كان أبواه من بلد واحد وهناك من كان ابن زواج مختلط. والمقصود اصلا بالعرب لأغراض هذه الورقة هو من كان ذا ثقافة عربية حتى وان كان من أصل عرقي غير عربي مثل الأقليات غير العربية في الدول العربية البربر، الأكراد، الأفارقة... الخ. لماذا الحديث عن الجالية العربية؟ تتميز المجتمعات الغربية بالتنظيم الذي تعتبره عنصراً مهماً في الهيكل الاجتماعي كما تتميز هذه المجتمعات بإنشاء المؤسسات والعمل المؤسسي، اما المجتمعات في الدول النامية ومنها الدول العربية فعلى رغم التنظيم القبلي، العرقي، الديني ومحاولات العمل المؤسسي نقابات، جمعيات، نواد، أحزاب إلا أن الفردية والشخصنة في التنظيم والعمل المؤسسي واضحة جداً بل تكاد تفقد التنظيم والمؤسسية شكلهما وتفرغهما من محتواهما. الفردية التي يتميز بها العرب كما لدى شعوب أخرى لا تزال عقبة دون العمل الجماعي من خلال القاسم الأدنى المشترك بين المجموعات والأفراد. اعتقد ان هذا الوضع فيه ضرر كبير للجالية، ولتوضيح حجم الضرر قد يكون من المفيد اعطاء أمثلة قليلة ومختلفة الأبعاد في هذا المجال. ففي فرنسا يدعو رئيس الجمهورية عادة في المناسبات الوطنية والدينية ممثلين للجاليات والأقليات لحضور حفلات عشاء أو الاستقبال لكن عدم تمكن العرب من الاتفاق على ممثل لهم أدى الى استبعاد العرب من هذه الدعوات. وحينما تحاول الأحزاب السياسية البريطانية التعامل مع "العرب" تجد من التناقض بينهم ما يجعل التعامل صعباً ان لم يكن مستحيلاً، فلا تستطيع الأحزاب التعامل مع القضايا العربية كمجموعة واحدة. وفي الوقت ذاته تتعامل الأحزاب بوضوح أكثر مثلاً مع "الجالية المسلمة" على رغم وجود فوارق أكبر بين العرب والعجم والباكستانيين والأفارقة المسلمين مما هو موجود بين العرب أنفسهم. وهناك على ما أظن بطالة بين شباب العرب المتخرجين من أفضل الجامعات البريطانية تزيد نسبتها عن المعدل الوطني في بريطانيا وذلك على الرغم من وجود مؤسسات اقتصادية عربية بأعداد كبيرة شركات طيران، بنوك، شركات تجارية وصناعية وخدمية. وفي تقديري انه ما لم يحاول العرب في بريطانيا العمل بأسلوب منظم وخلق مؤسسات تعمل من خلال القاسم المشترك الأدنى بهدف التكتل فسيبقى الجميع يعاني. ومن حيث الهوية، هناك في الجالية، بطبيعة الحال، أعداد كبيرة غير عربية العنصر أفارقة، شركس، أكراد إلا أنها عربية الثقافة ومن دول عربية أصلاً، والأهم من ذلك ان المؤسسات البريطانية تعتبرهم كما لو كانوا عرباً لأنهم من تلك الدول، كما ان هناك أعداداً من العرب ممن يدينون بالديانة المسيحية الا أن المؤسسات البريطانية تعتبرهم كما لو كانوا مسلمين وذلك لأنهم عرب أصلاً. هذا الفرق بين الواقع وكيفية الرؤية البريطانية إلينا أثر علينا على ما يبدو أكثر مما يجب، فالجالية العربية مثلاً تبتعد عن الجالية "المسلمة" باعتبار ان بين العرب مسيحيين وان العرب لهم "هوية" معينة وواضحة، وبذا فانهم لا يحتاجون للانتماء الى "المسلمين" البريطانيين، حتى غدا الاسلام كما لو كان لغير العرب في بريطانيا، في حين يتصور غالبية البريطانيين ان جميع العرب مسلمون. وبغض النظر عن مدى تدين الفرد أو ابتعاده عن الدين وبغض النظر عن الموقف الفكري والفلسفي، فإن ابتعاد العرب عن الجالية "المسلمة" في بريطانيا يحرمهم من بعد سياسي مهم مثل المساواة ومكافحة العنصرية والعمل الحزبي وفرص العمل حيث أحرزت الجالية "المسلمة" تقدماً لا بأس فيه هناك أعضاء في مجلس اللوردات، وزراء، نواب، مسؤولون في هيئات اخصائية وعلمية وعلى رغم ان كل من هؤلاء قد اختير أصلاً لامكاناته ولمكانته الشخصية إلا أن الكل جاء تحت لافتة وهوية "اسلامية"، من هنا أهمية دراسة الفوائد السياسية للتعاون مع والمشاركة في وأخذ دور واضح في هذه النشاطات السياسية "الاسلامية" بهوية ولافتة "عربية". عرب بريطانيون أم بريطانيون عرب؟ هناك من يشعر أنه عربي أولاً وبريطاني بعد ذلك، وهناك من يشعر العكس. وليس في هذا أو ذاك أي بأس على ما أرى بل اعتقد ان في هذا الاختلاف جانباً ايجابياً، اذ يستطيع من يشعر أنه عربي أولاً أن يقدم خير ما يستطيع ليخدم القضايا العربية ويقدم الآخر خير ما يستطيع ليخدم رأيه، وبذا نكسب جميعاً. ولنا من تجارب من سبقنا تراكم يمكن الاستفادة منه، فالهنود الذين يؤمنون ان جلالة الملكة هي ملكتهم قبل أن تكون ملكة للانكليز يقدمون للمجتمع من الخدمات ما يجعل المجتمع يعطيهم مقابل ذلك اعترافاً ينصرف نفعه لهم واصدقائهم وأبناء جلدتهم وبقية الهنود. واليهود البريطانيون الذين يعتبرون أنفسهم يهوداً أولاً وبريطانيين بعد ذلك يقدمون لاسرائيل خدمات يعجز عن تقديمها يهود اسرائيل، وكذا اليهود البريطانيون الذين يعتبرون أنفسهم بريطانيين أولاً ويهوداً بعد ذلك تستفيد الدولة التي يشعرون بالانتماء اليها فائدة كبرى. لكن مشاعر الانتماء لدينا بريطاني/ عربي لم تنضج بدرجة كافية، بأن يكون كل منا مواطناً صالحاً بريطانياً ووطنياً بريطانياً، وفي الوقت ذاته يكن مشاعر لا تقل سمواً ودفئاً تجاه أهله ودولة مولده وشعبه والقضايا العربية. اعتقد ان من أسباب عدم النضج هو الماضي الاستعماري البريطاني والحاضر الصدامي بين العرب وبريطانيا في ما يتعلق بالسياسة الخارجية والعلاقات الدولية. والخلاصة: اعتقد انه لا يمكن ان يخلص العربي البريطاني للقضايا العربية اذا لم يكن مخلصاً لوطنه بريطانيا، إذ أن الاخلاص والوطنية أمر مبدئي لا يمكن الالتزام به في موقف معين والتفريط به في موقف آخر. لكن الاخلاص لبريطانيا لا يعني ضرورة الموافقة على مواقفها السياسية كافة، فليس من الضروري ان يؤيد كل منا موقف بريطانيا تجاه أوروبا أو البيئة أو موضوع تيمور الشرقية، بالتالي ليس من المطلوب تأييد موقف بريطانيا من قضية فلسطين أو حصار العراق أو قصف مصنع الشفاء في السودان أو التعامل العنصري مع العرب أو غير ذلك من الأمور. وعند دراسة فكرة تنظيم الجالية قد يكون من المفيد الاشارة الى بعض العقبات لا من باب ترسيخها وانما من أجل وضع اقتراحات لمعالجتها أو التخفيف من آثارها. الجالية العربية في غالبيتها يمكن وصفها بصورة عامة على أن أغلب أفرادها: - لم يمارسوا العمل المدني/ الاجتماعي من قبل. - لديهم عقد نفسية تجاه ممارسات العمل السياسي في بلد المولد العربي. - لديهم رغبة في تحسين أوضاعهم فردياً وتحسين وضع الجالية يأخذ مركزاً أدنى. - ليست لديهم الحماسة الكافية ولديهم استعداد أقل للمساهمة المباشرة والشخصية فيها. - لم يتعودوا على العمل الجماعي. - يعانون من مشكلة شخصنة الأمور بحيث ينظرون لأغلب الأمور من خلال شخص القائم بالعمل. - استعدادهم لتمويل العمل العام الذي يقوم به الآخرون ضعيف جداً. قد يكون في ذلك تجن على البعض وقد يكون الوصف غير دقيق لكن اعتقد أنه بصورة عامة صحيح. فإن كان الأمر كذلك فإن أمر تنظيم الجالية العربية أو تنظيم مؤتمر الجالية نفسه يواجه هذه الحالة النفسية والسلوكية أو على الأقل يأخذها بنظر الاعتبار عند وضع المقترحات العملية ودراسة ما يمكن تطبيقه. من الناحية الأخرى لا بد من النظرة الواقعية لتنظيم الجالية حيث هناك متطلبات تفرضها الطبيعة والظروف، فهناك فروقات كبيرة بين أبناء الجالية كالفروقات العمرية وبالتالي التراكم في التجارب أو قلتها، والذاكرة الجماعية لتجارب الماضي. وهناك الفروقات الثقافية بين الأجيال المهاجرة والجديدة، والفروقات الاجتماعية العاملون والعاطلون والأغنياء والفقراء وذوو المؤهلات العلمية والعمال غير الماهرين وهناك الفروقات السلوكية: المتحرر والمحافظ، واختلاف الاهتمام والمشارب، وغير ذلك مما يجعل انتظام الجميع في هيكلية واحدة أمراً صعباً أو حتى غير واقعي الا بالحد الأدنى. لذلك فقد يكون من الضروري العمل بصورة متدرجة وعلى خطوات تزداد انضباطاً وتلازماً على مر الأيام أو السنين. هناك أيضاً المتطلبات المالية لقيام أي تنظيم وتمويل نشاطه وهذا موضوع يكاد يكون حاسماً في أمر التنظيم، ومع الأسف فإن تجربتي الشخصية تجعلني اعتقد ان الاستعداد ضعيف لدى الجالية لدفع حتى القليل من المال لضمان قيام أي تنظيم، ولا يمكن قيام تنظيم يتم تمويله من غير أبناء الجالية فذلك ليس عملياً ولا واقعياً، لكن هذا الموضوع يصلح بحد ذاته لدراسة مستقلة. من المشاكل الأخرى عدم وضوح القصد من تنظيم الجالية، فهل الغرض منه أن يقتصر على معالجة قضايا العرب في بريطانيا باعتبارهم مواطنين ومتوطنين؟ أم ان الهدف هو الطرف الآخر من الطيف أي خلق جماعة ضغط عربية لوبي عربي للتعامل مع القضايا العربية؟ أم ان التنظيم يشمل الجانبين، وان كان كذلك فما هي نسبة الخلط؟ وهل يمكن الخلط بين الأمرين من دون ضرر على التنظيم؟ وكيف يمكن معالجة الخلافات العربية - العربية داخل تنظيم الجالية؟ وكيف تمكن التعامل مع الخلاف بين أبناء القطر الواحد في ما يتعلق بالموقف من سياسة تلك الدولة؟ يمكن الحديث عن تنظيم الجالية ضمن وحدة تمثيلية للجالية العربية في بريطانيا أو هيئة تنسيقية بين التجمعات. وقد يكون التنظيم الأمثل هيئة واحدة تتحدث باسم الجالية ونيابة عنها تمثلها في كل شأن وتحظى بدعم الجالية وقبولها. ومن الناحية الثانية قد يكون هذا التصور غير واقعي وصعب المنال على الأقل في الأمد القريب نتيجة للعديد من الأسباب التي ذكرنا. وقد يكون من المفيد الاستفادة من تجارب الآخرين، فالجالية اليهودية في بريطانيا لديها ما يسمى "مجلس الممثلين" Board of Deputies وهو وان مثل الجالية اليهودية وتحدث باسمها إلا أنه يبقى هيئة تنسيقية بين الطوائف المختلفة، ومثل ذلك المجلس الاسلامي البريطاني Muslim Council of Britain. كما ان هناك تجارب من الدول الأوروبية الأخرى والولايات المتحدة تمكن الاستفادة منها. يجب في الوقت ذاته التنبيه الى أن تجارب تلك الدول قد لا تكون مناسبة للوضع في بريطانيا لأسباب تعود لتركيب الجالية العربية نفسها. ففي فرنسا مثلاً يختلط أمر الهوية بين "العربية" و"المسلمة" حيث يشار هناك الى الجالية العربية على أنها الجالية "المسلمة"، وهذا ينسجم مع التفكير السائد بين المهاجرين من دول الشمال الافريقي الذين يعتبرون هويتهم "اسلامية" أكثر مما يفعل المهاجرون من دول المشرق العربي، ومن ناحية ثانية يزيل على ما اعتقد ضرورة مناقشة قضية العرب والبربر والأمازيغية. أما في أميركا فالمجتمع مكون أصلاً من مهاجرين، فلا يوجد "أميركيون أصليون" كما يوجد فرنسيون وانكليز في فرنساوبريطانيا، بحيث تمكن التفرقة بين المواطن الأصلي والمهاجر، فالكل في أميركا مهاجر تجنس وذاب في البوتقة الأميركية متخلياً عن هويته الأصلية، وهو ما يفرق عن الاندماج في المجتمع البريطاني الذي لا يصل الى الانصهار والذوبان كما الحال في المجتمع الأميركي وهو ما يشار اليه على أنه Integration and not Assimilation. هذه هي الصورة العامة كما أراها لتوضيح الأسباب والدوافع التي تقف خلف الاقتراحات المحددة التي اختم بها هذه الورقة: - لا بد للجالية العربية من أن تنظم نفسها. - لا بد للتنظيم أن يكون عاماً شاملاً يحظى بتأييد أغلب ابنائها. - لا يتعارض ذلك التنظيم مع وليس بديلاً لأي تنظيم قائم آخر أو مستقبلي. - ان تكون للتنظيم هيكلية مستقلة عن كافة التنظيمات الأخرى. - أن يكون أعضاء التنظيم هم المرجعية العليا له وليس أية جهة أخرى. - أن يكون للتنظيم استقلال مالي يستند الى الجالية نفسها والتي هي مصدره الرئيس. - أن يكون للتنظيم عاملون متفرغون مقابل اجور. لتحقيق هذه الاقتراحات أو أغلبها يمكن مثلاً تشكيل تنظيم يدعى مثلاً "مجلس الجالية العربية في بريطانيا". * رئيس جمعية المحامين العرب في بريطانيا. والمقال جزء من ورقة قدمها أخيراً في المؤتمر الثالث للجالية الذي عقد في لندن.