في اللحظة نفسها، بعد ظهر الخميس، حدثان يختصران ما آل اليه المشهد السياسي التونسي. الاول لقاء دعت اليه التنظيمات النسائية في التجمع الدستوري الديموقراطي الحزب الحاكم في القاعة الضخمة لقصر المعارض، برعاية السيدة الاولى ليلى بن علي، وعنوانه مساندة الرئيس زين العابدين بن علي في حملته الرئاسية لولاية ثالثة. والثاني لقاء دعت اليه حركة الديموقراطيين الاشتراكيين في قاعة صغيرة وسط العاصمة، لاختتام حملتها للانتخابات التشريعية التي تجرى غداً الاحد في اقتراع متزامن مع الاقتراع الرئاسي. راجع ص6 في اللقاء النسائي حضور كثيف صاخب وماكينة تنظيمية هائلة تضجّ بالحيوية وتتحرك بإمكانات وتجهيزات لا تتوافر لأي من الاحزاب المعارضة المشاركة في الانتخابات. وفي اللقاء الآخر حضور محدود يتناقض مع حيوية الشارع وازدحامه ولامبالاته. يغلب عليه جو من الاحباط يتناقض بدوره مع جو الامل والحماسة الذي كان يميّز لقاءات "حركة الديموقراطيين" في الحملات الانتخابية السابقة بقاعات مكتظة تستقطب المحازبين والمتعاطفين. يتقاطع اللقاءان في انهما يرفعان صورة الرئيس/ المرشح بن علي، ويدعوان الى تأييده بالهتاف والغناء في قصر المعارض وباللافتات والمنشورات في "مجمع ابن رشيق" الثقافي. استعراض القوة والحضور الطاغي للحزب الحاكم ليسا جديدين على المسرح السياسي التونسي. الجديد هو ان حركة الديموقراطيين الاشتراكيين التي شكلت منذ تأسيسها في 1968 القوة الكبرى المنظمة في المعارضة، تراجعت الى هذا الحد في وقت اصبحت "التعددية" شعاراً ثابتاً يدافع عنه الحكم ويجعله واحداً من اهدافه على رغم اعتماده كلياً على حزبه. "الحركة" ضعفت كثيراً ، أليس كذلك؟ يجيب امينها العام الحالي اسماعيل بولحية: "بل اهترأت، ومع ذلك تبقى الورقة الخضراء اللون الذي اختارته "الحركة" للوائحها الانتخابية بارومتر الحياة السياسية في تونس، وتبقى "الحركة" جزءاً من الحركة الاصلاحية في تونس ولا داعي لمحوها، اذا الاخضر منعنع منتعش يتنعنع البلد، اذا الاخضر ضعيف وباهت هذا ينعكس على البلد". اسماعيل بولحية هو آخر العنقود من اصل ال9 الذين أسسوا "الحركة". الآخرون اعتزلوا العمل السياسي مثل الزعيم التاريخي للحركة احمد المستيري الذي استقال من قيادتها بعد شهور من انتخابات 89، او التحقوا بالنظام في مواقع مختلفة ولم تكن تجاربهم موفقة دائماً، او أُبعدوا بعد مواجهة مع النظام كما في حال الرئيس السابق للحركة محمد مواعدة الذي سجن في 1995 ثم اطلق ليعيش في شبه اقامة جبرية. مع المستيري استطاعت "الحركة" ان تحقق انتصاراً في 1981 في ما سمي "انتخابات الحناء" اشارة الى لون الحناء "الاخضر" الذي لا يلبث ان يتحول الى "احمر" بمعنى ان بطاقات "الحركة" دخلت خضراء الى صناديق الاقتراع ثم خرجت "حمراء" لون الحزب الحاكم. وبذلك فقدت "الحركة" ذلك الانتصار لكنها لا تزال تسجله على انه الاختراق الاول الذي يحققه حزب معارض في الانتخابات. ومع المستيري كانت "الحركة" متمردة، وبخروجه منها فتح الباب لتدجينها خصوصاً بعدما ظهرت فيها اجنحة متنابذة، الا ان مواعدة حسم الموقف لمصلحته بخط سياسي مراهن على النظام ومتقارب معه. لكن براغماتية مواعدة لم تصمد طويلاً، واذ حاول العودة الى التمرد ارتكب مجازفة ادت الى تفكيك الحركة وهجرة الكوادر الرئيسية فيها. ولعل اسماعيل بولحية يحاول اليوم انقاذ ما تبقى من "الحركة" محافظاً على خط التقارب مع الحكم. وفي الوقت نفسه توزع "المنشقون" على قوى سياسية اخرى او تدبّروا امورهم فرشحوا "لوائح مستقلة" في بعض الدوائر. ما الجديد في انتخابات 99، ما الفارق بينها وبين انتخابات 94؟ يجيب بولحية: "حدثت بينهما نكسة الانتخابات البلدية في 1995 التي اشاعت استنتاجاً بأن المعارضة لم تعد موجودة اذ انها حصلت على ستة مقاعد فقط من اصل 4600 مقعد. البلدية هي الخلية الاولى للديموقراطية وما لم تدخل المعارضة الى مجالس البلديات فان الممارسات الشاذة في الانتخابات ستستمر". يضيف: "لاحظنا في سلوك الادارة حتى الآن شيئاً من الحياد، والرئيس بن علي كرر توجيهاته للادارة لاحترام الحياد، لكن للبلديات في العملية دوراً كبيراً، والبلديات للحزب الحاكم". لم يستطع الامين العام لحركة الديموقراطيين الاشتراكيين ان يترشح للرئاسة، لأن المواصفات التي وضعها التعديل الدستوري للترشيح لا تنطبق عليه، لكنه مرشح للانتخابات التشريعية في دائرة "تونس 2"، ويقول: "حاجتنا اليوم ليست للترشيح للرئاسة وانما لبناء تعددية يستفيد منها المجتمع التونسي من كل كفاءاته. فالرئيس بن علي نفسه لم يترشح وحده، ولم يعد ليرتاح الى نتيجة بنسبة 99 في المئة، وهو بذلك يرسل اشارة الى محازبيه بأنه يقبل التعددية على مستوى الرئاسة، ثم انه وضع سقفاً لتمثيل الحزب الحاكم في البرلمان بنسبة 80 في المئة وجعل للمعارضة نسبة تمثيل ارادية هي 20 في المئة، ولهذه النسبة ما يفسرها على ارض الواقع ويدعمها". طرحت الحركة في برنامجها الانتخابي ثلاثة محاور: الاول "ادخال الاخلاقيات في السياسة"، وكان بولحية اقترح في مداخلة اثناء مؤتمر الحزب الحاكم في تموز يوليو 98 ان يوضع نوع من "ميثاق السلوك الحسن" في التعامل مع العملية الانتخابية. ودعمت الحركة هذا الاقتراح بآخر اقرّه مؤتمرها في تشرين الاول اكتوبر 98 لجعل السنة الحالية 99 "سنة المواطنة" لأنه "حان الوقت للاعتماد على المواطن كحضانة وحيدة للسيادة التي اصبحت موضع مراجعة مع التحولات التي نعيشها في محيطنا، ولا بد ان يعامل المواطن معاملة الراشد". اما المحور الثاني فهو "الشفافية في المعاملات الاقتصادية"، والثالث "الاعتماد على ما تملكه تونس من موارد، مع اعادة النظر في النظام التعليمي وربطه بحاجات سوق العمل" كخطوة حتمية للتخطيط لمكافحة البطالة. ويتوقع الأمين العام بولحية ان تحافظ "الحركة" على عدد المقاعد التي حصلت عليها في برلمان 94 10 مقاعد نقصت الى 9 باسقاط عضوية خميس الشماري بل "ان تحصل على مزيد من المقاعد" في البرلمان المقبل. وهو يعتبر "ان انتخابات 99 تضع تونس على مفترق. فهي حققت خطوات جيدة في التنمية الاقتصادية لكنها لا تزال مترددة في السياسة، والتنمية الشاملة لا تقتصر على تأمين وسائل العيش للمواطن بل تعني ايضاً ان يعيش بكرامته ويشارك في الحياة العامة ويعامل كبشر وفقاًَ للقيم المعاصرة". ماذا بعد الانتخابات؟ يقول: "علينا ان نجيب على توقعات الشباب، اذ ان جيل الاستقلال قام بواجبه و تقاعد والجيل الذي تلاه يقترب من التقاعد، ولا بد من تسليم الجيل الجديد. كيف يمكن تأطير هذا الجيل وتكوينه لممارسة المسؤولية؟ هذه مهمة الاحزاب ولا مجال الا في الاحزاب". ويرى بولحية، اخيراً، ان هناك فرصة متاحة اليوم "لاتخاذ قرارات جريئة دفعاً للمسار الديموقراطي"، متسائلاً: "ما الخوف طالما ان للحزب الحاكم اكثرية مضمونة وطالما اننا جميعاً تونسيون ولسنا كورسيكيين، لسنا ملائكة ولسنا شياطين، كلنا نريد ان نعمل في البلد من اجل البلد، والساق التي مشت في الاقتصاد ونجحت لا بد ان تواكبها الساق الثانية في السياسة وتنجح ليسير البلد على قدميه".