جهود دعوية وإنسانية لتوعية الجاليات وتخفيف معاناة الشتاء    أمير الرياض ونائبه يعزيان في وفاة الحماد    أمير الرياض يستقبل سفير فرنسا    «الحياة الفطرية» تطلق 66 كائنًا مهددًا بالانقراض    انخفاض معدلات الجريمة بالمملكة.. والثقة في الأمن 99.77 %    رغم ارتفاع الاحتياطي.. الجنيه المصري يتراجع لمستويات غير مسبوقة    إيداع مليار ريال في حسابات مستفيدي "سكني" لشهر ديسمبر    العمل الحر.. يعزِّز الاقتصاد الوطني ويحفّز نمو سوق العمل    نائب أمير تبوك يطلق حملة نثر البذور في مراعي المنطقة    NHC تنفذ عقود بيع ب 82 % في وجهة خيالا بجدة    العمل الحرّ.. يعزز الاقتصاد الوطني ويحفّز نمو سوق العمل    الاحتلال يكثّف هجماته على مستشفيات شمال غزة    تهديد بالقنابل لتأجيل الامتحانات في الهند    إطلاق ChatGPT في تطبيق واتساب    هل هز «سناب شات» عرش شعبية «X» ؟    المملكة تدعم أمن واستقرار سورية    "أطباء بلا حدود": الوضع في السودان صعب للغاية    حرب غزة:77 مدرسة دمرت بشكل كامل واستشهاد 619 معلماً    السعودية واليمن.. «الفوز ولا غيره»    إعلان استضافة السعودية «خليجي 27».. غداً    رينارد: سنتجاوز الأيام الصعبة    اتركوا النقد وادعموا المنتخب    أخضر رفع الأثقال يواصل تألقه في البطولة الآسيوية    القيادة تهنئ رئيس المجلس الرئاسي الليبي    غارسيا: العصبية سبب خسارتنا    القيادة تهنئ رئيس المجلس الرئاسي الليبي    إطلاق 66 كائناً مهدداً بالانقراض في محمية الملك خالد الملكية    رئيس بلدية خميس مشيط: نقوم بصيانة ومعالجة أي ملاحظات على «جسر النعمان» بشكل فوري    الأمير سعود بن نهار يلتقي مدير تعليم الطائف ويدشن المتطوع الصغير    وافق على الإستراتيجية التحولية لمعهد الإدارة.. مجلس الوزراء: تعديل تنظيم هيئة الاتصالات والفضاء والتقنية    مجلس الوزراء يقر الإستراتيجية التحولية لمعهد الإدارة العامة    الراجحي يدشّن «تمكين» الشرقية    تقنية الواقع الافتراضي تجذب زوار جناح الإمارة في معرض وزارة الداخلية    لغتنا الجميلة وتحديات المستقبل    أترك مسافة كافية بينك وبين البشر    مع الشاعر الأديب د. عبدالله باشراحيل في أعماله الكاملة    عبد العزيز بن سعود يكرّم الفائزين بجوائز مهرجان الملك عبد العزيز للصقور    تزامناً مع دخول فصل الشتاء.. «عكاظ» ترصد صناعة الخيام    وزير الداخلية يكرم الفائزين بجوائز مهرجان الصقور 2024م    نائب أمير منطقة مكة يرأس اجتماع اللجنة التنفيذية للجنة الحج المركزية    زوجان من البوسنة يُبشَّران بزيارة الحرمين    القهوة والشاي يقللان خطر الإصابة بسرطان الرأس والعنق    القراءة للجنين    5 علامات تشير إلى «ارتباط قلق» لدى طفلك    طريقة عمل سنو مان كوكيز    الموافقة على نشر البيانات في الصحة    جامعة ريادة الأعمال.. وسوق العمل!    نقاط على طرق السماء    الدوري قاهرهم    «عزوة» الحي !    أخطاء ألمانيا في مواجهة الإرهاب اليميني    المدينة المنورة: القبض على مقيم لترويجه مادة الميثامفيتامين المخدر (الشبو)    استعراض خطط رفع الجاهزية والخطط التشغيلية لحج 1446    عبد المطلب    "الداخلية" تواصل تعزيز الأمن والثقة بالخدمات الأمنية وخفض معدلات الجريمة    سيكلوجية السماح    الأمير سعود بن نهار يستأنف جولاته للمراكز الإدارية التابعة لمحافظة الطائف.    «الحياة الفطرية» تطلق 66 كائناً فطرياً مهدداً بالانقراض في محمية الملك خالد الملكية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مشروع زيارة بابا روما الى بغداد : موعظة "سلام" على طريق أور - القدس
نشر في الحياة يوم 22 - 10 - 1999

السؤال الذي يستحق اجابة واضحة، بصدد الزيارة المرتقبة لقداسة الحَبْر الأعظم البابا يوحنا بولس الثاني الى "القدس" انطلاقاً من "أور" العراقية هو التالي: ولكن لماذا، بالضبط، من أور الكلدانيين هذه؟ اذا ما سار كل شيء على ما يرام، وأمكن للبابا ان يقوم - بالفعل - بزيارته التاريخية هذه، في ختام الألفية الثانية وبدء الاحتفالات بالألفية الثالثة لميلاد السيد المسيح ع، وكانت صحته - ونأمل ذلك - تساعده في تحمّل مشاق الطريق الى القدس انطلاقاً من "أور" القديمة، فان السؤال المثار آنفاً سيكون بحاجة مؤكدة الى جواب. صحيح ان الفاتيكان يصر على التأكيد ان بواعث وأهداف الزيارة تنحصر في البُعد الروحي الديني لما لمدينة أور الكلدانيين من مكانة خاصة في قلوب الملايين من المسيحيين المؤمنين، ليس شأنها طبعاً شأن القدس، لكن الصحيح ايضاً، ان اكتشاف هذه المكانة الآن، والإلحاح عليها، قد يجعل من البُعد الديني مجرد بُعدٍ واحدٍ بين أبعاد عدة.
وفي هذا النطاق، تستحق زيارة البابا التاريخية لأور ثم القدس، قراءة مغايرة على الأقل، للقراءة المعلنة.
برأينا، هناك ثلاثة أبعاد ودلالات:
اولاً: البُعد التاريخي: إذ تعود اول زيارة لبابا الفاتيكان الى القدس الى السادس من كانون الثاني يناير عام 1964، عندما قام الحَبْر الأعظم قداسة البابا بولس السادس - رحمه الله - بأول رحلة في التاريخ البابوي الحديث للقدس، وكانت تلك هي اول رحلة ايضاً لبابا الفاتيكان تقوده خارج حدود اوروبا لأجل تفقّد الأماكن التاريخية التي ولدت فيها المسيحية. ولذا، فان تاريخاً طويلاً زهاء 36 عاماً يفصل بين الزيارتين آنذاك. لم تكن أور الكلدانيين لترد، بأي حال من الاحوال، في برنامج تلك الرحلة، فيما العالم المسيحي اليوم، وبأسره لا الفاتيكان وحده، مهتم أشد الاهتمام، وخصوصاً في استقبال الألفية الثالثة، بالتأكيد على الدور التاريخي الذي لعبته أور في نشر العقيدة التوحيدية، التي ولدت المسيحية من رحمها، وهذا قد يعني، من بين ما يعني ان طريق القدس كانت، في الماضي، مفتوحة، وانها يجب ان تظل كذلك. ولئن كانت أور قد دشنت قبل زهاء 2500 ق.م اول شبكة اتصالات توحيدية في العالم القديم بين كتلتين جغرافيتين: الخليج العربي وبلاد الشام، فانها يمكن ان تدشّن نوعاً من الصلات بين الديانات الثلاث الكبرى: اليهودية والمسيحية والاسلام. وهذا - برأينا - بُعد قد يجعل من استعمال التاريخ امراً يتصل لا بالدين وانما بالسياسة. ولكن حين تطأ قدما قداسة البابا يوحنا بولس الثاني ارض اور باطلالها التاريخية وحجارتها الاثرية العتيقة، فان رائحة التاريخ سوف تضرع في المكان كله: إذ، على نحوٍ ما، سيبدو اللقاء بين البابا القادم من "روما" القديمة وبين "أور" كما لو انه لقاء استحال تحقيقه في الماضي وها هو يتحقق اليوم: بابل وروما. وفي هذه الصورة شديدة الرمزية سيكون ممكناً رؤية الدلالات التي ينطوي عليها مثل هذا اللقاء، فالتاريخ حيّ تنطق حجارته العتيقة بقصصٍ رويت مراراً وتكراراً عن اعظم امبراطوريتين في التاريخ البشري. وثمة، في هذا الاطار، ما لا يتوجب اغماض العين عن رؤيته. فبابل المهدّمة، تعرضت لقصف روما الجديد: أميركا، ولا تزال هناك آثار 400 قذيفة اطلقتها القوات الاميركية على زقورة أور المشهورة ب"زقورة أورنمو اثناء حرب عاصفة الصحراء. وهذه سيتوقف قداسة البابا طويلاً امامها ليتأمل عظمة تلك الفكرة البابلية القديمة عن لقاء الأرض بالسماء عبر الزقورة، بوصفها نقطة التماس بين البشري والإلهي. انها الذروة ذاتها التي ادركتها المسيحية عميقاً بوصفها ذروة التواصل مع الخالق، حيث يتوجب على العبد المؤمن ان يرتقي الى اعلى الزقورة متحملاً مشاق الصعود لتحقيق اللقاء القدسي ومناجاة الربّ.
كانت أور الكلدانيين دُرّة مدن جنوب ما بين النهرين الألف الثالث ق. م، حيث - تقول التوراة - ان النبي ابراهيم ع ولد فيها قبل ان يحلّ في حاران - في مدينة الرها وهي اليوم ضمن الأراضي التركية -. بيد ان العالم المسيحي لم يكن ليعرف شيئاً محدداً ودقيقاً عن "أور" هذه حتى العام 1854 عندما تمكّن القنصل البريطاني في البصرة السيد تايلور، وعلى نحو دقيق، ولأول مرة بالطبع، من ان يثبت ان "أور" القديمة هي ذاتها التي يُعرف ركامها بين السكان المحليين باسم تلّ المقيّر - المعروف باللهجة العامية العراقية: المكّير - على ان علماء الآثار لم يباشروا الحفريات الواسعة في "أور" الا بعد عقود عدة من اكتشاف تايلور. وكان على العالم المسيحي ان ينتظر حلول شتاء 1922 حتى يباشر العالم البريطاني "ليونارد وولي" تنقيباته التي سوف تستمر 12 عاماً في المنطقة الوسطى من الأطلال العملاقة، لتخرج الى النور مجموعة من القصور الفاخرة والأبراج المدرجة للمعابد والمدافن الملكية الخيالية. ومن اعجب مكتشفات أور مدفن الكاهنة بو - آبي التي أصرّ علماء التوراة دون وجه حق، على انها هي ذاتها الاسم التوراتي "شبعاد" ولم يكن ذلك صحيحاً بطبيعة الحال. وخلال موسم تنقيبات عام 1930 - 1931 عاد السيد "وولي" لينتقل بتنقيباته من المعابد والمدافن العائدة للاسرة الثالثة 3000 ق.م الى الاحياء السكنية حيث أمكن له ان يتعرف على نحوٍ شامل ومؤكد على المدينة كما انطبعت في المخيال المسيحي الغربي.
بهذا المعنى فإن زيارة البابا الى "أور الكلدانيين" ستكون إرواء لظمأ جماعي عاشه العالم المسيحي لرؤية المدينة التي ولد فيها ابراهيم ع: انها المدينة التي اخرجتها المسيحية الاوروبية من اعماق الأرض ونفضت عنها غبار التاريخ، وهذا بُعد يصعب اسبعاده عن المخيال المسيحي الأوروبي.
ثانياً: البُعد الديني: كان لمدينة "أور" مكانة خاصة في قلب المسيحية المعاصرة، بل وفي قلب المسيحية التاريخية، التي وجدت لها في الكنيسة الكلدانية في العراق نصيراً فعالاً في المشرق. وبفضل تلك المكانة الدينية المنسيّة لمدينة "أور" والتي استثمرتها الكنيسة الكلدانية على أحسن وجه، بما هي مدينة التوحيد الاول، امكن لمسيحيي العراق ان يلعبوا في العصور المسيحية المبكرة، دوراً تجاوز نطاق بلاد ما بين النهرين، فلقد ساهم هؤلاء، وسوية مع اسقفية انطاكية، في نشر المسيحية وايصالها الى الشرق الاقصى عبر مدينة البصرة. وتذكر الوثائق الكنسية نصاً فريداً عثر عليه في الصين زهاء 387 - 390م وقد كتب باللغتين السريانية - والصينية اي بلغة كلدانيي بلاد ما بين النهرين. ومع ذلك فان صلات الكنيسة الكلدانية بالمركز البابوي. لم تكن تخلو من توترات وصراعات. ومن نافل القول، الاشارة الى ان هذه العلاقة اتسمت بنمط من التجاذب، العنيف احياناً، بين مذاهب المسيحية المبكرة وذلك في اعقاب سلسلة من التطورات الفكرية التي عاشتها المسيحية. كانت مسيحية العصور المبكرة عصور الاضطهادات قد شهدت أهمّ تطور في تاريخها: ظهور مدرسة انطاكية في الشام ومدرسة الاسكندرية في مصر. اما مسيحيّو بلاد ما بين النهرين، فقد كانوا ينشرون الدين الجديد 387 - 390م بهدوء حتى بلغ عدد ما يملكونه من بطرياركيات زهاء 27 بطرياركية وما يزيد قليلاً عن 100 أبرشية. ولكن سرعان ما دبّ الشقاق بين الكنيسة الكلدانية وروما.
ففي هذا الوقت، تقريباً، تفجّر الخلاف المذهبي الكبير مع بروز مدرستين مسيحيتين: المونوفيزية والنسطورية. ويبدو ان الكنيسة الكلدانية وتحت تأثير الاحتلال الفارسي الطويل لبابل وجدت نفسها تعتنق المذهب النسطوري الذي يقول بالطبيعتين البشرية والإلهية للمسيح، فيما كانت روما تتمسك بالمذهب المونوفيزي القائل بالطبيعة الواحدة بوصفه المذهب الارثوذكسي الرسمي. وهكذا، ظل الصراع مُستعراً بين الكنيسة الكلدانية وروما، التي كانت ترى الى تمسك العراقيين بالنسطورية دليلاً على انهم كانوا يتلقون تشجيعاً مستتراً من البلاط الفارسي غريم روما، بينما كان العراقيون، بخلاف هذه النظرة المجحفة بحقهم، ينظرون الى النسطورية بوصفها مذهباً اكثر "شرقية" وتلاؤماً مع تصوراتهم. ولكن الخلاف، في النهاية، كان قابلاً للحلّ، وأدركت روما، كما ادركت الكنيسة الكلدانية، ان الاحداث التالية قد تجاوزت خلافاتهما، وبذا اتخذت الكنيسة الكلدانية عام 1552 قرارها بالعودة الى احضان البابوية، وكان لراعي بطرياركية بابل، آنئذٍ، زهاء أربع مقاطعات تضم ربع مليون من المؤمنين. الامر الهام في هذه الواقعة، برأينا، هو التالي: ان الكنيسة الكلدانية، وإجمالاً مسيحية بلاد ما بين النهرين، تقبّلت وجود اقطاب من دعاة المونوفيزية من ذوي الثقافة الجيدة، ولم تجرِ أية اضطهادات بحق انصار هذا المذهب. وكان من ابرز هؤلاء "مار أحو دامة" الذي مات مقتولاً بأمرٍ من كسرى الاول 557م وهو أمر أزعج الكنيسة الكلدانية، النسطورية في هذا الوقت بكل تكيد، ذلك ان الشهيد "مار أحو دامة" الذي تشير قصة حياته الى مثقف ورع كان وراء نجاحات تبشيرية بارزة تمكن لا من اقناع العرب الوثنيين بالمسيحية وحسب، بل ومن هدي احد الامراء من ابناء كسرى الأول انو شروان الى طريق المسيحية، فترك هذا الشاب قصر والده وغدا مسيحياً زاهداً. وتشير المصادر الاخبارية العربية القديمة في هذا الصدد الى لجوئه لمدينة الحيرة الكوفة حالياً. وهو الشاب نفسه الذي تحدثت عنه الأساطير العربية القديمة، وسائر المصادر الطبري، ابن الاثير، المسعودي بقولها ان النعمان بن المنذر بنى له قصراً في الحيرة لإقامته. ومن الواضح ان قرار اغتيال "مار أحو دامة" صدر عن أنو شروان شخصياً، الذي كان يمقت المونوفيزية ويرى الى اتباعها من الفرس لا بوصفهم مواطنين مسيحيين بل عملاء لروما خصمه العنيد. وكان هناك، فضلاً عن "ما أحو دامة" مونوفيزي آخر، كان بحق شخصية بارزة هو "ماروثا التكريتي" المتوفى عام 649م، الذي تمكن من نشر المدارس الدينية في حديثة حداثا. وفي القرن الثامن الميلادي كانت هناك مدرسة دينية اخرى برز فيها يوحنا الدليمي المتوفى عام 738م. وفي هذا السياق يلاحظ صاحب كتاب "العفة" ايشوعدناح البصري، ان المدارس المسيحية في العراق، انتشرت قبل الاسلام، بدءاً من مدينة أربيل حتى البصرة أيّ من الشمال الى الجنوب. وحتى في العصر العباسي الأول، قام البطريرك حنا يشوع الثاني بالدعوة الى المسيحية والتبشير بها. لقد كان ذلك دليلاً قاطعاً لا على سماحة المسيحية الكلدانية ورحابة صدرها في التعاطي مع مسألة الاختلاف المذهبي، وانما ايضاً على سماحة الاسلام نفسه، الذي نظر الى "أهل الكتاب" نظرة فيها الكثير من الاحترام والتقدير.
وفي ما يتصل بالخلاف المحتدم بين المونوفيزية الارثوذكسية والنسطورية من جهة، وبين الكنيسة الكلدانية وروما من جهة اخرى، فإن من المهم - عند مراجعة التاريخ - نقدياً رؤية الكيفية التي كانت فيها كل هذه الخلافات تُسمع في بلاط النعمان بن المنذر في الحيرة. وقد روت المصادر الكنسية المسيحية والمصادر العربية القديمة على حدّ سواء، كيف ان فارس كانت تراقب بحذر تطورات الجدال المذهبي لتدعم اتجاهاً انشقاقياً في المسيحية بل ولترعاه بنفسها منذ 300م عملياً. ويبدو ان القبائل العربية، قبل الاسلام، اعتنقت المسيحية على المذهب النسطوري، لا بفعل الضغط الفارسي الذي يرى الى روما كعدو والى المسيحيين الفرس والعرب كحلفاء لهذا العدو، كما ذهبت الى ذلك طائفة من الاخباريات القديمة، وانما لأن النسطورية كانت في صياغاتها اقرب للذهن والمزاج والمخيال الشرقي العربي، فهي تقول بطبيعتين تامتين وكاملتين في يسوع، بخلاف المونوفيزية التي رأى اليها شيوخ القبائل كمذهب مؤلّه للمسيح. ولا يعدم المرء، في هذا السياق، وطبقاً لما روته المصادر القديمة، رؤية الشقاق يتسع بين روما وبلاد ما بين النهرين، التي جرى فوق ترابها صدام عنيف سمعت اصداؤه في العالم بأسره. وبالرغم من هذا كله، فقد انتشر المذهبان، عبر البوابة العراقية، بدرجة اقل قياساً الى فعالية مدرسة انطاكية والإسكندرية. بيد ان اهمية البوابة العراقية، آنذاك، كانت بالنسبة لروما، انما هي قدرة المبشّرين العراقيين على نشر المذهب في الجزيرة العربية واليمن. وقد حدث تطوران خطيران، آنئذٍ، اولهما: صعود يوسف ذي نواس الملك الحميري، الذي كان حماتُه الفرس يقدمون له دعماً غير محدود 523م بعد اعتناقه اليهودية رسمياً، وهو ما ادى الى شروعه، وبتحريض من يهود اليمن وفارس، بتدبير حادث قتل جاعي رهيب لممثلي التيار المونوفيزي. هذا الحادث الذي عُرف في المصادر القديمة ب"حادث الإخدود" وقد صوّره القرآن الكريم في آية: "قتل أصحاب الأخدود. النارِ ذاتِ الوقود". وطبقاً للمرويات الكنسية المسيحية والمصادر القديمة العربية، قام يوسف ذي نواس باحراق نصارى نجران الذين اعتنقوا المذهب المونوفيزي ومن ابرزهم الحارث بن كعب. وبالطبع، كان يهود اليمن وبتحريض وتشجيع سافر من فارس وراء عملية استئصال المذهب المونوفيزي وإعاقة انتشاره لقطع الطريق على بيزنطة الطامحة الى بسط سيطرتها الدينية على اليمن عبر الحبشة. واذا كان صحيحاً - الى حدٍ ما - ان فارس، في هذا الوقت، امتلكت وكيلاً لها لحماية مصالحها في الجزيرة العربية عبر صداقتها مع ملوك الحيرة، وان بيزنطة، بالمقابل، امتلكت وكيلاً منافساً هو الحبشة، فان الصحيح ايضاً، وهذا ثابت تاريخياً، ان الحيرة سعت الى لعب دورها الخاص بها، ولم تلعب - دينياً - اي دورٍ لحساب فارس، على الأقل بفضل سماحها لانصار المذهبين في النقاش داخل البلاط الملكي ومن دون تدخل، بل ان المنذر بن النعمان بن المنذر الذي يعلم ان الفرس كانوا وراء سجن ثم مقتل والده النعمان طلب من سمعان الأرشمي الذي قام بتَنْصيره على المذهب المونوفيزي، ان يكتب رسالة عام 524 م أي بعد اقل من عام على الاضطهادات في اليمن حادث الإخدود يناشد فيها الامبراطور البيزنطي الاسراع في التدخل لوضع حدّ لمجازر ذي نواس واليهود ضد مسيحيي اليمن. وفي تقديري، واستناداً الى تحليل معمّق للوقائع التاريخية، فإن الحيرة كانت تطبق استراتيجية فعّالة للخلاص من النفوذ الفارسي، وجاء اعتناق المنذر بن النعمان بن المنذر للمسيحية على المذهب المونوفيزي، كإشارة الى بيزنطة، فيها ما يكفي من الاستعداد لإعادة تقويم العلاقات المتوترة بين بيزنطة والحيرة.
وهزيمة بيزنطة المفاجئة امام فارس، التي هلّل لها بعض القبائل العربية في الحجاز ومكة عام 610م. كانت، على مقربة من الاسلام المبكر، ضربة موجعة وغير متوقعة للدعاة المسلمين الذين كانوا يقاومون ضغط القبائل الوثنية. ورأى فيه الرسول ص انتصاراً مؤقتاً للشرك العالمي على التوحيد. كانت نظرة الاسلام، في اطار الصراع البيزنطي - الفارسي، تقوم على الانحياز دون أدنى تحرج او لُبس لبيزنطة ضد فارس، لأن بيزنطة كانت بنظر الاسلام "أهل كتاب" فيما كانت فارس المجوسية، ثم اليهودية مع خليط وثني اكبر تحدٍ امام الاسلام الوليد. وقد سجلت هذا الحادث سورة شهيرة في القرآن الكريم: "ألم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غُلبهم سيغلبون". كما ان ابن هشام في السيرة روى خبراً يتصل بهذا الحادث التاريخي: فقد كان ابو بكر رضي الله عنه مارّاً واذا بجماعة من المشركين يقتعدون الطريق مبتهجين بهزيمة بيزنطة وهم يستوقفونه هازئين ثم ليطلبوا منه ان يدخل معهم في رهان حول من سيكون المنتصر في الحرب القادمة. ويبدو ان ابو بكر رضي الله عنه تقبّل التحدي وراهن المشركين على انتصار بيزنطة. وحين اخبر الرسول ص بذلك دعاه الى ان يعود اليهم على ان يرفعوا عدد الإبل في الرهان مقابل ان يرفعوا عدد السنوات التي توقع الاسلام ان يتمكن البيزنطيون خلالها من تجميع قواهم والانتصار على فارس.
هذا الاطار التاريخي، العمومي، لنفوذ المسيحية قبل الاسلام، يكشف من دون شك، عن ادوار لا يمكن للمركز البابويّ اليوم الا ان يراها كأدوار يعود فيها الفضل لا لمدرسة انطاكية وحدها وانما ايضاً للكنيسة الكلدانية في العراق. وفي هذا النطاق المحدود من الفكرة، فان قداسة البابا وهو يقف على اطلال أور سيرى الى عظمة المدينة القديمة كجزء من عظمة حضارة عراقية غابرة.
ثالثاً: البُعد السياسي: يمكن قراءة هذا البُعد ابتداءً من الواقعة التالية: في اعقاب حرب الخليج وإطباق الحصار الجائر على العراق نيسان/ ابريل 1994 أرسل قداسة البابا يوحنا بولس الثاني بابا الفاتيكان، ممثله الشخصي الكاردينال سلفستريني الى بغداد للقاء الرئيس العراقي وتسليمه رسالة شخصية. كان اللقاء حدثاً في وسائل الاعلام العراقية، وقام تلفزيون بغداد بتغطية واسعة لهذا اللقاء الفريد والاستثنائي في ظروف العراق المحاصر. ولكن حدث ما لم يكن بالحسبان: اذ فجأة تم انهاء اللقاء بطريقة دراماتيكية مثيرة، وذلك حين خاطب الرئيس العراقي ممثل البابا ومبعوثه الى بغداد، وبطريقة لافتة، بأن "المقابلة انتهت"! ثم كشفت بغداد في اعقاب ذلك، المضمون الحقيقي للمحادثات التي دارت، سراً، بين الرئيس العراقي والكاردينال سلفستريني. ويمكن تلخيص ما قالته بغداد عن هذا اللقاء بما يلي: كان مبعوث البابا يعرض للرئيس العراقي افكار رسالة البابا، بشكل عمومي. ثم بادر الرئيس العراقي ليعرض لممثل البابا آثار الحصار المدمر لأرواح العراقيين وبلدهم. فما كان من ممثل البابا الا ان قال مخاطباً الرئيس العراقي: انه جاء في زيارة ذات طابع ديني خالص لأجل مشاركة العراقيين آلامهم في الحصار، وان قداسة الحبر الاعظم يشاطرهم هذا العذاب ويصلي من اجلهم، ولذا فان مهمة مبعوثه تمنعه من التحدث في السياسة! فرد الرئيس العراقي قائلاً: اذا كان الحديث عن الحصار هو سياسة فلماذا لا يكون الحديث عن اسرائيل "سياسة" ايضاً؟ وكان واضحاً، طبقاً لما كشفته بغداد عن هذا اللقاء، ان الكاردينال سلفستريني لفت انظار الرئيس العراقي الى حرص واهتمام الفاتيكان بأن يخطو العراق خطوة ضرورية تكون "لفتة حسنة" ازاء اسرائيل. كان الطلب صريحاً وقد تضمنته رسالة البابا وهي - كما قالت بغداد - رسالة يراد منها حمل العراق على الاعتراف باسرائيل. وبالطبع، لم تحسن بغداد، كالعادة، لا قراءة مضمون الرسالة جيداً، ولا فهم مغزى الزيارة، فضلاً عن انها تسرّعت في رد فعلها، اذ كان يمكن للقاء ان يستمر من دون نهاية دراماتيكية، وان تظل الجسور مفتوحة بين بغداد والفاتيكان، بل وان ينظر الى طلب الفاتيكان في اطار محدود للغاية بوصفه "تمنيات" بابوية للسلام في المنطقة. وهو امر، من المحتمل ان بغداد ادركت في ما بعد جسامته وربما شعرت بالندم جراء غضبها على البابا، ولذا سارعت - بعد وقت غير قصير - الى ارسال راعي الكنيسة الكلدانية الى روما للقاء الحَبْر الأعظم واصلاح ما تهدّم من جسور. ثم اعقبتها بزيارة خاطفة لنائب رئيس الوزراء العراقي السيد طارق عزيز الى حاضرة الفاتيكان. وفي كل هذا، كان واضحاً ان بغداد ومركز البابوية اصبحا في وضع يمكّنهما من ابقاء الجسور مفتوحة بينهما لأجل التداول بهدوء في افكار ومقترحات السلام المنشود في المنطقة. اليوم، وحيث تتوجه أنظار الملايين من البشر صوب بغداد، وأور والقدس، لمتابعة هذه الرحلة الشاقة، فانه لمن المهم بالنسبة لنا ان نتساءل عن المغزى غير الديني لاختيار "أور" كنقطة انطلاق نحو القدس، وهي المدينة التي كانت معروفة ومكتشفة منذ عشرات السنين؟ حقاً، لماذا، بالضبط، أور الكلدانيين إذا لم يكن الأمر يتعلق بالسلام السياسي في المنطقة؟ ولماذا يراد لنا ان نعلم ان طريق أور تؤدي الى القدس؟ اذا لم يكن ثمة اي مغزى سياسي فعلاً للرحلة البابوية، وهذا أمر يمكن استبعاده بسهولة نظراً لوجود وقائع كثيرة، فانه لمن الضروري التساؤل، عندئذٍ، عن نوع الموعظة التي ستلقى على هذا الطريق، والتي يتعين على بغداد الاصغاء اليها. ترى هل سيجد البابا نفسه مضطراً الى ان يطلب - هذه المرة بنفسه لا بواسطة مبعوثه الشخصي - ومن بغداد ذاتها، ان تتحمّل معه مشاق السير الى القدس؟ اي ان تسير على خطاه المؤدية الى مدينة لا تعرف بغداد أبجديتها ويسمّيها البابا: أورشليم؟
اذا كان لا بد من نصيحة لبغداد، فان ما يمكن التشديد عليه هو ان عليها ان تبدي اكبر قدر من الاستعداد للاستماع للآراء والأفكار مهما كانت "مزعجة"، ذلك ان السياسة ليست فناً في إلقاء الخطب الرنّانة وانما، بدرجة اكبر، فن الاصغاء الى الآخرين المختلفين والمغايرين. لا يعني هذا، بأي حال من الأحوال التشجيع على دخول عالم السلام مع اسرائيل ولكنه يعني، بوضوح تام، الاستعداد لتعلّم فن الاصغاء الى الافكار المزعجة.
* كاتب عراقي مقيم في هولندا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.