إنها لمثيرة حقاً هذه الانطولوجيا الشعرية «الانفعالية» التي صدرت حديثاً لدى دار Le Nouvel Athanor الباريسية تحت عنوان «المقيمون على ضفاف النار». فواضعها، الشاعر كريستوف دوفان، يخرج عن الطُرُق المعبّدة والمعروفة جداً لاستكشاف أعمالٍ ومسارات مصبوغة بالوحدة والمرض والموت. وفعلاً، نشاهد في هذه الانطولوجيا تواقيع غير معهودة بالكاد نعرف بعضاً منها وتعود إلى فارّين ثابتين من الواقع، ولكن أيضاً إلى تحرّريين وجيّاع للحب وصانعي ثورات داخلية وخارجية، الأمر الذي يحوّلها إلى مرآةٍ للشعر الفرنسي المعاصر الذي لم يحظ بالاهتمام الذي يستحقه على رغم قيمته الشعرية الكبيرة التي تتخطى غالباً قيمة الشعر الفرنسي المعروف. تقع هذه الانطولوجيا الضخمة في نحو 500 صفحة وتضم عدداً كبيراً من القصائد التي تشهد كل واحدة منها على إلحاحية الصرخة أو على النار التي تهدّد بحرق كل شيء. وتُشكّل دليلاً خطّياً على ضرورة إعادة النظر اليوم في الكتب المدرسية والجامعية المرصودة لدراسة الشعر وفي المراجع الشعرية المعتمدة التي تبدو، على ضوء هذه الانطولوجيا، جد امتثالية و«عاقلة». وفعلاً، الأناشيد التي يدعونا دوفان إلى اكتشافها ليست تلك التي برمجها أساتذة المدارس منذ منتصف القرن الماضي. فما وراء الرومنطيقية والرمزية والمستقبلية والسرّيالية والواقعية، يقترح علينا دوفان نوعاً من التهجين المغري لكل التيارات، تقف خلفه جوقة من الأصوات المتفرّقة التي تندّد بالظلم الاجتماعي وتدافع عن كرامة الإنسان وتحاول تبديد القلق الناتج من الأخطار التي تهدّد مصير البشرية منذ فجر التاريخ. ولا شك في أن لويس أراغون وبول إيلوار وهنري ميشو وأندريه بروتون وفرنسيس بونج ورنيه شار وإيف بونفوا لم يحاصروا كل جوانب مأساة حياتنا على الأرض، وبالتالي لا يمكن تلخيص الشعر الحي في القرن العشرين عبر تعداد هذه الأسماء على رغم أهميتها البالغة. ولحسن الحظ، يخبّئ لنا الزمن مفاجآت سارة والتزامات صافية وانقلابات غير متوقّعة عبر كشفه، وإن متأخّراً، أصواتاً مثيرة تهمس باعترافاتٍ محرّرة من الأوهام والآمال أو تقذف بلعناتٍ منيرة، مثل أندريه لود ودانييل بيغا وجان بروتون ودومينيك لاباريير وجان بيار دوبري. فحين تعبر اجتماعيات الأدب وموضته، القصيرة البصر بطبيعتها، لا يبقى لنا سوى القصائد وحيدةً، عاريةً ومنزّهة من أي تفسير. والشاعر الحقيقي، في نظر دوفان، هو ذلك الذي يفرض فرادته وصوته العميق من دون سعي محموم خلف رأي النقّاد والجوائز التافهة، مرتكزاً حصرياً على دواوينه الشعرية كمعيارٍ وحيد للحكم على قيمته وكأرشيف حيّ لتحدي الموت والنسيان والمكر ومدّ الذاكرة وتاريخ الأدب بمقياسٍ عادلٍ ودقيق. ولكن هل ذلك يعني أن شعراء هذه الانطولوجيا «المقيمين على ضفاف النار» لا ينتمون إلى أي مدرسة أو تيّار محدّد؟ الواضح أنهم يتميّزون بحساسية أو تواطؤٍ «انفعالي» (émotiviste) مشترك لعلمهم أن التيارات أو المدارس التي تأثّروا بها أو انتموا إليها في فترةٍ ما من حياتهم تُنهَك بسرعة من جرّاء مواجهتها الواقع، وتختنق داخل حدودها الجامدة. وفي هذا السياق، تشكّل هذه الانطولوجيا انقلاباً على عادات نقّاد الشعر وقرّائه وعلى بعض «القيَم» الأدبية التي فقدت من أهميتها لفرط تداولها. نشعر داخل هذه الانطولوجيا التي تغطي الفترة الممتدة من الحرب العالمية الثانية حتى اليوم، بزوبعة من الحرية والتمرّد لا مثيل لها لدى عدد كبير من الشعراء المعاصرين الذين تحجّروا منذ فترة طويلة بسبب توجّهاتهم العقائدية الضيّقة. ولعل أكثر ما يميّز معظم هؤلاء الشعراء هو تنوّع اختباراتهم والتيارات التي انتموا إليها مرحلياً، أو سلوكهم مساراتٍ فردية مثل مالكوم دو شازال وأندريه دو ريشو وألان بورن ولوسيان بيكر. ومن بين التيارات التي يشير إليها دوفان: مدرسة روشفور (1941-1945) التي أعادت تأهيل النزعة الإنسانية من خلال غنائية جان روسلو ولوك بيريمون؛ السرّيالية خلال الاحتلال النازي التي اختار دوفان وجوهاً غير معروفة منها، مثل مارك باتان وليو مالي وروبر ريوس وموريس بلانشار وكريستيان دوترومون وجورج أونيي؛ السرّيالية بعد الحرب العالمية الثانية، ثم بعد وفاة بروتون، التي منحتنا أسماءً شعرية كبيرة مثل ساران ألكسندريان وستايسلاس رودانسكي وكلود تارنو وألان جوفروا وجان دومينيك راي؛ الشعراء الذين تجمّعوا حول غي شامبلان داخل مجلة Le Pont de l'Epée ورفعوا أيضاً شعار الغنائية، مثل إيف مارتان وألان سيمون وكريستيان باشلان وفيم كارينين وجاك كوبير وألبر فلوري وإيلوديا تركي وجان ميشال روبر؛ الواقعية الجديدة (1962) التي تشكّل امتداداً لجيل «البيت» الأميركي في فرنسا، وقد طوّر أربابها (كلود بيليو وميشال بولتو ودانييل بيغا ودومينيك لاباريير وباتريس ديلبور وألان جيغو) شعراً مدينياً كردّ فعلٍ على المجتمع الاستهلاكي وأدخلوا على القصيدة تقنيات الملصق السينمائي والتقطيع والأحداث الصحافية المتفرّقة؛ شعراء «الشعر من أجل الحياة» (1964-1987) الذين تجمّعوا حول جان بروتون ونشروا أعمالهم في سلسلة الكتب التي حملت العنوان ذاته وثاروا على «شعر المختبر» لمصلحة شعرٍ أكثر عفوية يرتكز الى الغنائية والانفعال والواقع الآني ويمجّد الحلم والثورة والحب. ولا يتقوقع دوفان في انطولوجيته داخل الفضاء الشعري الفرنسي بل يتخطّاه ليشمل أصواتاً فرنكوفونية غنائية من المغرب العربي (محمد خير الدين، جمال الدين بن شيخ وعبد اللطيف اللعبي) ومصر (جورج حنين وجويس منصور) وأفريقيا (دافيد ديوب وليو مالي وتشيكايا أو تامسي) ومقاطعة كيبك الكندية (ميشال بوليو ورولان جيغير وجيل إينو وبول ماري لابوينت) وبلجيكا (أرنست دوليف أندريه ميغيل وروبر غوفان ورولان بوسلان) وسويسرا (إدمون هنري كريزينل وألان بيار بيللي وجان بيار شلونيغير وفرانسيس جيوك).