لم يكن التغير في مواقف اهم الاحزاب المصرية المعارضة تجاه الاستفتاء على تجديد الرئاسة لمبارك في الشهر الماضي هو المظهر الوحيد الدال على حدوث تغير ملموس في نمط التفاعلات السياسية في مصر، لكنه يبدو المظهر الاكثر وضوحا. فهذه هي المرة الاولى، منذ الانتقال الى التعدد الحزبي المقيد في منتصف السبعينات، التي يصير فيها رفض تجديد الرئاسة هو موقف الاقلية في اوساط المعارضة، فقد تفرد الحزب الناصري بهذا الموقف، بينما تحول حزب المعارضة الاكبر الوفد من رفض التجديد لمبارك العام 1993 الى تأييد هذا التجديد العام 1999، مع المطالبة بتحقيق اصلاح سياسي خلال فترة الرئاسة الرابعة التي بدأت رسمياً يوم 5 اكتوبر تشرين الاول الجاري، كما حدث تحول لا يقل اهمية في موقف حزب التجمع من رفض التجديد لمبارك العام 1993 الى الامتناع عن التصويت في العام 1999، بينما نكص حزب العمل عن تحديد اي موقف. واذا اعتبرنا ان هذه هي احزاب المعارضة الرئيسية، يصير واضحاً ان الاتجاه الغالب فيها هو اقرب الى تأييد استمرار رئيس الجمهورية لفترة جديدة، حتى اذا اخذنا في الاعتبار الخلافات التي حدثت داخل كل منها او معظمها، وهذا جديد في مصر. فقد ظل الاتجاه الاساسي، ان لم يكن الوحيد، في تفسير التفاعلات الداخلية المصرية منذ السبعينات يعتمد على الخلافات والتناقضات القائمة بين الحكومة والمعارضة، وكان هذا التفسير صالحاً حتى مطلع التسعينات، على رغم التباينات الواسعة بين احزاب وقوى المعارضة وما تؤدي اليه من خلافات في بعض المواقف، وكان جائزاً القول ان التناقض الاساسي في الساحة السياسية كان بين الحكومة والمعارضة، غير ان ثنائية "حكومة - معارضة" اخذت تفقد تدريجاً قدرتها على تفسير التفاعلات في الساحة السياسية منذ بداية التسعينات عندما تصاعدت الخلافات بين بعض احزاب، وقوى المعارضة على خلفية الانقسام الاسلامي- العلماني او شبه العلماني، وتزامن هذا التطور مع ازدياد الانقسامات في داخل كل من احزاب وقوى المعارضة بلا استثناء ولكن بدرجات مختلفة واشكال متباينة. واليوم، مع حلول نهاية التسعينات وعلى مشارف قرن جديد، فقدت ثنائية "حكومة - معارضة" الجزء الاكبر من اهميتها في تفسير التفاعلات الداخلية في مصر. وفضلاً عن عدم اتفاق حزبين معارضين اثنين على الموقف نفسه، في الاستفتاء الرئاسي الاخير، نجد مظاهر اكثر دلالة وقف خلالها قادة في احزاب معارضة في صف الحكومة او بعض اعضائها وفي مواجهة قطاع آخر من المعارضة. وليس هذا تطوراً سلبياً بأي حال، ولا يصح التعجل في استنتاج انه وليد اتجاه قطاع من المعارضة الى المهادنة او رفع الرايات البيضاء خوفاً او بحثاً عن مغانم، فالميل الى المهادنة بالمعنى السلبي لم يكن غائباً في اي وقت، حتى في اشد لحظات المواجهة بين الحكم والمعارضة. ولم تقدم احزاب المعارضة الرئيسية كلها قادة استغلوا مواقعهم للحصول على مغانم شخصية والاقتراب من دوائر السلطة. ولكن كانت هذه حالات فردية مهما كان عددها كبيراً. ما نتحدث عنه الآن هو ظاهرة جديدة لا تخلو من معان ايجابية تدل على نضج قطاعات من المعارضة وقدرتها على التمييز. فالمعارضة الناضجة هي التي تميز بين الغث والسمين سواء في الاداء الحكومي او في مواقف معارضي هذا الاداء. وهذا النوع الناضج من المعارضة هو الاكثر التزاما بالمعنى الاسلامي لمناصرة الاخوة بالوقوف معهم مظلومين ونصحهم اذا كانوا ظالمين. وظهر ذلك اكثر ما ظهر في قضية "الشعب - والي"، اي الدعوى القضائية التي رفعها الامين العام للحزب الوطني الحاكم نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الزراعة، الدكتور يوسف والي ضد صحيفة "الشعب" الناطقة بلسان حزب العمل بسبب الحملة التي شنتها ضد سياساته وضده شخصياً. فكان الدكتور نعمان جمعة، المحامي نائب رئيس حزب الوفد، اي الرجل الثاني في اكبر احزاب المعارضة، هو محامي يوسف والي الامين العام للحزب الحاكم. صحيح ان الدكتور جمعة لم يكن يدافع عن والي انطلاقاً من الانتماء الحزبي لأي منهما، وانما باعتباره محامياً يؤدي واجباً مهنيا. ولكن هذا لا يعني ان الدكتور جمعة لم يكن مقتنعاً بأن موكله الذي هو احد قادة الحكومة يعتبر مظلوماً، وان الصحيفة المعارضة تجاوزت حدود النقد المباح وقذفت والي بالخيانة وغيرها من الامور التي لو ثبتت لأدت الى معاقبته او احتقاره من ابناء وطنه. والأكيد ان رجل قانون ورائداً من رواده وعميداً سابقاً لكلية الحقوق في جامعة القاهرة لم يكن ليقبل ان يقف في الموقف الذي وقفه دفاعا عن والي لو كان لديه اي اقتناع بأن موكله يستحق ما تعرض له من تجريح. ويعني ذلك ان القطب المعارض رأى ان ما فعله اقطاب اخرون من المعارضة يجيز له ان يقف ضدهم في ساحة القضاء دفاعا عن قطب من اقطاب الحكومة. وعلى رغم ان هذا موقف شجاع، من زاوية ان يستطيع المرء التمييز بين موقعه السياسي وموقفه في أمر يتعلق بالحق والعدل، الا ان الشجاعة لا تفسر وحدها المشهد الذي لا سابق له في مصر منذ تأسيس الاحزاب في اطار التعددية المقيدة في منتصف السبعينات. فالمحامي المعارض الذي وقف مدافعا عن مسؤول حكومي كبير هو الرجل الثاني في حزب سياسي بما يعنيه ذلك من ضرورة ان يخضع تصرفاته حتى الشخصية لميزان دقيق. فليس متصوراً ان يأتي فعلاً قد يؤثر سلبياً على وضعه الحزبي المفتوح على آفاق ابعد في المستقبل. ولذلك فالمفترض بداهة انه أجرى حساباته واستشار من كان لزاما عليه ان يستشيرهم من اركان حزبه، قبل ان يقدم على خطوة كبيرة بهذا الحجم. ولولا ان المزاج العام داخل حزب الوفد يقبل مثل هذه الخطوة، ما كان ممكنا للرجل الثاني فيه ان يقدم عليها. ويعني ذلك ان الاتجاه الغالب داخل حزب المعارضة الرئيسي لم يعد يرى اثماً في ان يقف مع الحكومة او مسؤول فيها وضد حزب معارض آخر اذا كانت المصلحة العامة، لا مصلحة الحزب فقط، تقتضي ذلك. ورأى هذا الاتجاه فعلاً انه ليس هناك اي مبرر وطني حقيقي ولا اخلاقي يستوجب اتهام المخالفين في الرأي او منفذي سياسة معينة بالخيانة، وان شيوع مثل هذا الاتهام يسمم الاجواء السياسية ويضر بفرص الديموقراطية التي هي قضية حزب الوفد الاولى. ولأن هذه القضية ليست لها الاولوية نفسها لدى حزب العمل فمن الطبيعي ان يزداد التنافر بينهما من دون اعلان عن ذلك مع الوقت الى ان ظهر هذا التنافر واضحاً جلياً في قضية "الشعب - والي". ولا يقلل من حجم التنافر ان يقف اثنان من اعضاء الهيئة العليا لحزب الوفد في صف جريدة "الشعب" وينضمّا الى هيئة الدفاع عنها في المحكمة، اي ان يقفا في الصف المضاد لنائب رئيس حزبهما. فلم يكن هذان معبرين عن اتجاه قوى في داخل حزب الوفد، لأن الاتجاه السائد كان متفهماً بل مرحباً بموقف نائب رئيس الحزب، ولا يعني ذلك عدم وجود خلافات في داخل الحزب. فهناك خلافات، كما هي الحال في داخل احزاب المعارضة جميعها، ولكن على قضايا وامور اخرى. كما لا يعني هذا ان الاتجاه الغالب في حزب الوفد او نائب رئيسه يؤيد سياسة هذا المسؤول الحكومي او يعتبرها عصية على النقد. فلم يكن موضوع الدعوى القضائية يتعلق بسلامة او فساد السياسة الزراعية وما اشتملت عليه من علاقات مع اسرائيل. ولكن كان موضوع الدعوى هو مدى جواز او عدم جواز القذف في حق مسؤول حكومي عند الاختلاف معه وتجريمه شخصياً واصدار احكام عليه يفترض ان القضاء دون غيره هو المختص بها. ولم يكن الاتجاه الغالب في حزب الوفد وحده هو الذي جزع من اسلوب صحيفة حزب العمل ووصولها الى اقصى اشكال الخصومة الى حد ان يصير الاتهام بالخيانة غير كاف، فيقال مثلاً ليست خيانة بل اسوأ. فكان الاتجاه الغالب في داخل حزب التجمع ايضا منزعجاً من هذا الاسلوب، وكذلك هناك اتجاه يعتد به في داخل الحزب الناصري. بل توافرت مؤشرات كافية على ان اتجاها لا يستهان به في داخل جماعة "الاخوان المسلمين" كان مستاءً من اداء صحيفة حزب العمل واستسهالها الاتهام بالخيانة. ولا شك في ان كل اهل المعارضة الذين اساءهم اداء صحيفة "الشعب" هم معارضون للحكم من مداخل ووجهات نظر مختلفة، ولا يؤدي موقفهم هذا الى خروجهم من دائرة المعارضة، بل ان بعضهم اكثر معارضة واقوى في ممارسة هذه المعارضة مقارنة بحزب العمل. لكن الدلالة المهمة للخلاف على قضية "الشعب - والي" هي ان قطاعا من المعارضة لم يعد يجد ما يسيئ اليه اذا وقف مع الحكومة او مسؤول فيها وضد قطاع آخر من المعارضة في قضية محددة. ولذلك صار ممكناً ان يحدث هذا علناً من دون اخفاء او تمويه. فالمعروف ان قطاعاً من المعارضة وقف مع الحكومة في بداية التسعينات ضد التيار الاسلامي عندما تصاعد العنف الديني في بداية التسعينات. ولكن كان هناك حرص على اخفاء هذا الموقف وراء خطاب يؤكد على التمايز عن الحكومة والاسلاميين في آن معاً، او على وضع القضية في أطر أوسع نطاقاً، وكان اصحاب ذلك الموقف معنيين بألا "يضبطوا" متلبسين بتأييد سياسة حكومية ضد العنف رغم انهم كانوا مؤيدين لها فعلاً. ولم يعد الامر على هذا النحو، ليس فقط في قضية "الشعب - والي" على رغم انها كانت المظهر الاكثر وضوحاً خلال الفترة الماضية لهذا التطور. خذ مثلاً اختلاف مثقفي المعارضة وصحفها على بعض سياسات وزير الثقافة فاروق حسني وخصوصاً بشأن نقل بعض محتويات المتحف الاسلامي من مبناه في "باب الخلق" الى احد قصور القلعة. ففي الوقت الذي تعرض الوزير الى هجوم حاد في بعض صحف المعارضة، وقف بعض المثقفين المعارضين مدافعين عنه. ومما يستلفت الانتباه في تلك الحملة على وزير الثقافة، ان بعض الدفاع عنه نشر في صحف معارضة، بينما كان الهجوم الأشد عليه في بعض الصحف القومية ومن كتاب ليسوا معارضين بأي حال، او لم يعودوا معارضين. وهذا جانب آخر لتراجع ثنائية "حكومة - معارضة" كأساس لتفسير التفاعلات السياسية المصرية، اذ صار ممكناً ان تشارك صحف ذات طابع حكومي في الهجوم على مسؤول حكومي، وان يأخذ هذا الهجوم طابع حملات ممتدة وليس نقداً عابراً. فقد شهدت هذه الصحف، تطوراً ايجابياً في السنوات الاخيرة زاد بمقتضاه هامش الحرية المتاح ما ادى الى نشر كتابات نقدية لسياسات او مسؤولين حكوميين، وصار بعض الوزراء ينتقدون في صحف قومية اكثر من صحف المعارضة وبكيفية افضل في بعض الاحيان. ولكن هذا يختلف عن شن حملات واسعة، او المشاركة في حملات ممتدة ضد سياسات حكومية مثلما تعرض له وزير الثقافة اخيراً ودفعه الى الإعداد لإصدار صحيفة اسبوعية عن وزارة الثقافة بعد ان اعلن استياءه من الصحافة القومية التي كان اشد الهجوم عليه منشوراً على صفحات بعضها. وعندما ينتقد وزير في الحكومة الصحافة التي تسيطر عليها الحكومة لأن بعضها شارك صحفاً معارضة في الحملة عليه، نصير ازاء وضع جديد يدعم الاعتقاد في ان ثنائية "حكومة - معارضة" لم تعد تصلح كأساس لتفسير التفاعلات السياسية في مصر. * كاتب مصري