شهدت العاصمة الأردنية عمان نهاية شهر ايلول سبتمبر المنصرم الاجتماع الثاني لهذا العام لرئاسة وكالة الغوث الاونروا مع ممثلي الدول المانحة والمضيفة وممثل منظمة التحرير الفلسطينية لبحث ميزانية الوكالة. وقد باتت الشكوى من عجزها المالي امراً اعتيادياً لا يثير الاستغراب. وفيه كشف المفوض العام بيتر هانسن ان الأونروا تعاني من عجز مركب بلغت قيمته 60 مليون دولار وانها بحاجة الى 13.6 مليون دولار لانجاز برنامجها حتى نهاية العام الحالي، استطاعت ان توفر منه 7.5 مليون دولار عبر تبرعات استثنائية من كل من الولاياتالمتحدة واليابان وهولندا وبريطانيا وايطاليا. والى جانب الكلام الطيب على لسان هانسن عن اللاجئين وحقوقهم وضرورة ادامة عمل الوكالة، بشّر بأن الوكالة مقبلة على دفعة جديدة من اجراءات تقليص خدماتها متذرعاً بعدم وفاء الدول المانحة بتعهداتها المالية. وقد وفّر هانسن لهذه الدول ذريعة جديدة حين توقع ان يكون ما شهده العالم خلال العامين المنصرمين من نكبات انسانية وطبيعية وما ألقته على عاتق الدول المانحة من واجبات اضافية، سبباً اضافياً لتقليص اهتمامها بقضية اللاجئين الفلسطينيين وتراجع حماسها لوكالة الغوث. كما كشف هانسن في معرض حديثه عن الوضع المالي للأونروا ان الوكالة احدثت هي الاخرى تغييراً في اولويات اهتماماتها على حساب الوظيفة الرئيسية التي لأجلها انشئت والمتمثلة في تقديم الخدمات للاجئين. اذ أشار هانسن الى ان منظمته استقطعت من موازنة البرنامج العام المتعلق بالخدمات مبلغاً وقدره 11.5 مليون دولار لاستكمال بناء وتجهيز مستشفى غزة التي تكفلت دول الاتحاد الاوروبي بناءه في اطار "برنامج تطبيق السلام" P.I.P - المستحدث من قبل لجنة العمل الخاصة باللاجئين والتابعة للمفاوضات المتعددة. ويفترض هانسن ان دول الاتحاد الاوروبي ستسدد هذا المبلغ لصالح الصندوق العام متجاهلاً انه مرّ على هذه القضية حوالى السنتين من دون جديد مما ينذر بضياع المبلغ. كما كشف هانسن النقاب عن ان الوكالة استقطعت من الصندوق العام مبلغاً آخر وقدره 5.5 مليون دولار لاستكمال تكاليف نقل مقرها في فيينا الى غزة. ويفترض هانسن ان الدول المانحة معنية ايضاً بدفع هذا المبلغ علماً انها كانت تعهدت بدفع 13 مليون دولار فقط لهذا الغرض وفقاً لتقدير الوكالة لتكاليف النقل، لم تسدد منها سوى 11 مليوناً بينما وصلت التكاليف الفعلية لسوء في التقدير الى 16.5 مليون دولار. والأمر ما زال عالقاً بين الوكالة والدول المانحة من دون حل. كما كشف هانسن ان السلطة الفلسطينية، وللعام الثالث على التوالي تمتنع عن تسديد ما هو مستحق عليها لوكالة الغوث كرديات ضرائب القيمة المضافة وقد وصلت الى 20 مليون دولار. وهكذا تجد الوكالة نفسها امام عجز اضافي قيمته 37 مليون دولار استقطع من الموازنة العامة على حساب حق اللاجئين في الخدمات الأمر الذي يبين ان مسألة العجز لمالي، فضلاً عن كونها فزاعة، هي في الوقت نفسه نتاج خلل في ادارة اعمال الوكالة وخروج عن اهدافها المحددة لها ولصالح مشاريع وبرامج على صلة بالتسوية السياسية. ويمكن النظر الى كل ما ورد على لسان هانس على انه قد يشكل تمهيداً لاحياء الدعوة لزيادة اسهام الدول العربية والاسلامية - الغنية منها على الخصوص - في تمويل وكالة الغوث. وهو أمر يتناقض مع جوهر وظيفة الوكالة ودورها باعتبارها مؤشراً لمدى اهتمام الغرب بقضية اللاجئين والتزامه بها. والتزام الغرب بتمويل الوكالة وادامة عملها يشكل معياراً لمدى التزامه بقضية اللاجئين وحقوقهم. وبالتالي فان خطورة زيادة مساهمة تمويل الدول العربية والاسلامية انها تفسح المجال امام الغرب ليتخلى تدريجياً عن التزاماته لصالح القاء العبء الأهم على عاتق الدول العربية والاسلامية وبالتالي تحويل الوكالة من منظمة دولية الى منظمة اقليمية بكل ما في هذا الأمر من تداعيات سياسية على اوضاع اللاجئين ومصالحهم وحقوقهم ومستقبلهم وعلى القرار 194 وتفسيراته. ان هذا لا يلغي ضرورة تطوير مساهمة العرب والمسلمين في اسناد اللاجئين ومساعدتهم لكن عبر اقنية بديلة منها على سبيل المثال المنظمات الأهلية العاملة في صفوف اللاجئين وهي كثيرة وتشكل جمعية النجدة الاجتماعية العاملة في مخيمات لبنان نموذجاً ناجحاً لها. ويبدو ان معالجة الأزمة المالية في وكالة الغوث وتخليصها من عجزها المالي المركب امر لا يقف عند حدود المسألة التقنية للتمويل بل هو في حقيقته امر سياسي اولاً وقبل كل شيء. اذ من الملاحظ ان العجز المالي ترافق مع ولادة اتفاق اوسلو حين اخذت الدول المانحة تقلص مساهمتها في التمويل او تجمدها عند سقف مالي محدد لا يأخذ بالاعتبار حاجة الوكالة لزيادة ميزانيتها بما يتناسب مع الزيادة السكانية للاجئين ومع ارتفاع مستويات المعيشة في المنطقة. وقد يبدو سلوك الدول المانحة وكأنه يهدف للضغط على الأطراف المتفاوضة لايجاد حل لقضية اللاجئين على امل الخلاص من الاعباء المالية لهذه القضية التي مضى على وجودها ما يزيد على نصف قرن. علماً ان مجموع ما توفره هذه الدول للأونروا سنوياً يعتبر مبلغاً زهيداً مقارنة مع ما ترصده لعملياتها العسكرية ولسياسات التدخل بالقوة او "لأهداف انسانية" في هذه البقعة او تلك من الأرض. كما ان ارقام العجز المالي في الوكالة تعتبر هي الاخرى تافهة بمقياس ما ترصده الولاياتالمتحدة سنوياً من اموال دعم لاسرائيل، او بمقياس المساعدات الاستثنائية المرصودة لها مع كل اتفاق مع الفلسطينيين بذريعة تشجيعها على المضي في عملية السلام، او حتى بمقياس التعويضات الممنوحة لها من المانيا تكفيراً عن جرائم النازية، وهو ما يعيدنا للتأكيد مرة اخرى ان تمويل الوكالة وعجزها أمر سياسي وبالتالي فان معالجته يفترض ان تكون هي الاخرى سياسية دون ان نتجاهل اهمية التحركات الشعبية المطلبية للضغط على الوكالة في مواجهة تقليصها لخدماتها. وفي المعالجة السياسية لوضع الوكالة ودورها وأدائها يتسع باب الاقتراحات، نختار منها: التأكيد مجدداً على الوظيفة الأساسية للوكالة والتي من اجلها تأسست وكما وردت في القرار 302 وربطاً بالقرار 194 الذي يكفل حق اللاجئين في العودة الى ديارهم التي منها طردوا في العام 1948. الاعتراض على تكليف الوكالة بأية مشاريع، تتعارض في سياقها السياسي مع الوظيفة التي من اجلها تأسست. وهذا يفترض اخراجها من دائرة الحل السياسي الناشئ عن اتفاقات اوسلو، وفك ارتباطها بلجنة العمل الخاصة باللاجئين والتابعة للمفاوضات المتعددة، نظراً للتناقض بين مفهوم القرارين 194 و302 اي حق اللاجئين بالعودة والأساس الذي قامت عليه اعمال لجنة اللاجئين في المتعددة التأهيل والدمج في المجتمع المحلي والتوطين. مقاومة تحويل الوكالة الى مؤسسة تنموية او وكالة تطوير محلية او اقليمية تنفيذاً للمخططات الاميركية. وهو ما يتطلب فحص مشاريع الوكالة وخدماتها والتدقيق في مضمونها وأهدافها الآتية والبعيدة بما في ذلك مشاريع در الدخل والقروض التشغيلية، خاصة تلك التي يستتبعها تخلي اللاجئين طواعية عن خدمات الوكالة. المطالبة بفصل المشاريع الاستثنائية لوكالة الغوث عن برامج الصندوق العام ومنع استقطاع مبالغ من الصندوق لصالح هذه المشاريع. على غرار ما جرى مع مشروع غزة او مشروع نقل مقر رئاسة الوكالة من فيينا الى غزة. التسلح بدراسات عن مستويات المعيشة ومتطلباتها في مناطق عمل الوكالة كأساس معياري لمحاكمة تقديماتها وخدماتها. وعلى قاعدتها المطالبة بتطوير هذه التقديمات والخدمات وبما يوفر للاجئ الحد الأدنى من حاجاته - على الأقل - كما تقرها الدراسات الدورية لمضمون سلة الغذاء المصادق عليها من السلطات المحلية والهيئات الاجتماعية ذات الصلة. ووضع تعريفات علمية لخط الفقر وحالات العوز ومفهوم الاغاثة الاجتماعية والعمل لالزام الوكالة بها. فتح نقاش على المستوى الوطني حول مسألة اعادة بحث التفويض المعطى للوكالة وتطويره بحيث يشمل توفير الحماية للاجئين بما في ذلك العمل على تطبيق القرار 194 واعادة اللاجئين الى ديارهم وضمان اقامتهم واستقرارهم، على غرار التفويض المعطى للمفوضية العليا للاجئين. وكذلك فتح نقاش مماثل لبحث امكانية المطالبة باعادة النظر بأسس تمويل وكالة الغوث بحيث تصبح ميزانيتها جزءاً من الميزانية العامة للأمم المتحدة أسوة بباقي المنظمات الدولية، ولا تبقى رهناً بمساعدات الدول المانحة ووفائها لالتزاماتها، وبالتالي رهناً لمواقفها لاسياسية، خاصة المتأثرة منها بتطورات العملية التفاوضية الجارية. * كاتب سياسي فلسطيني