كان الكون هاجعاً بالنسبة له، وفي الشارع الطويل المعتم، لا صوت، لا نأمة .. غير صوت صلصلة فرعونية، رهيفة، واهنة. تلفت حوله فالهواء الذي تشقه المغرم بها بسلاسة، لا نغمة له. وكذلك هو في مشيته بحذاء كتيم. كانت "صافيا" تشعر به يمشي وراءها كل مساء، يراقبها حين عودتها من محاضراتها أو ذهابها للمحل حيث تبيع الكراسات والأدوات الكتابية. إلا أنه يحتفظ بمسافة بينهما لا تخنقها بحصار .. ولم يغازلها بكلمات تحبسها وتحد من حرية شرودها أثناء المشي. عندما يلج المرء سيارته ينعزل عن العالم، يبدو زجاجها مزدوجا كزجاج القطارات الفخيمة والطائرات أو بطانة استديو اذاعي. ترى "صافيا" حركة الناس رجراجة، صاخبة، إلا أن صوتا لا يصلهما.. فقط موسيقى الصمت لكليهما، ثم يسمع حسن صوت الصلصلة من جديد، ويظن ان بالعربة عيبا .. ويفحصها ولا يجد سببا، لقد وصلت لتوها من مصنعها الألماني، تقف العربة، ينقطع الخفوت، تسير .. فيعود الصوت الواهن. وفي لحظة استجابة لذبذبات توتره التي طالت، مدت صافيا يدها الى أذنيها وخلعت القرط. عندئذ سبحا في صمت الطريق الصحراوي. مد يده الى القرط في كفيها. تبسم "حسن" لنفسه: إنه القرط في أذنيها الجميلتين الصغيرتين، إنه القرط أول ما يلفت نظري في المرأة، إنه القرط الذي يثير شهيتي لتقبيل رقبتها وما وراء أذنيها. القرط بشكل مفتاح الحياة داخل مثلث مزود بنهايات دائرية. وقف حسن وصافيا أمام المصور، كان الثلث الأعلى من ظهره الذي تضع صافيا عليه يدا محبة يدق بعنف، وفروة رأسه تنبض، اسنانه تكاد من فرط لهاث اللثة ان تترجرج من جذورها، قلب حسن يضرب بعنف غير منتظم، ولم يكن الأمر جللا: لقد تزوج فقط. في عائلة يتفاخر افرادها بأنهم لا يحضرون حفلات ولا جنازات بعضهم. كان بصحبة صافيا في زفافها أخوها الأصغر فقط. عندما توفي الجد كان ابوهم وهو الابن الاكبر مع عشيقته التي ظلت تواسيه حتى فاتته جنازة والده. لم يوافق الوالد على اقتران حسن الذي يقاربه في العمر من صافيا حتى ينقده مهرا كبيراً ويشترط ان تعطيه صافيا من مرتبها بعد تخرجها في الجامعة -النصف - نظير تعبه في تربيتها واسهاما في تربية اخواتها. يوم عقد القران أسر لحسن هامسا ساخراً "يا بني أنت اخذت اكبر مقلب في حياتك"، هذه العبارة التي تظل خبيئة حتى تنفذ الى لسان حسن في اواخر حياتهما الزوجية. وفي اليوم نفسه حدث أمران غريبان: الاول في بيت ابيها وستعرفه صافيا عند منتصف الليل والاخر في بيت زوجها ولن تعرفه إلا بعد سنوات وقد انجبت ثلاث بنات. في زفة العروسين رقصت بنت عم ابيها على نحو فائر وجنوني ملتذ. عجبت صافيا لأن تلك المرأة على وقار وانكسار، وإن لاحظت أخيرا أنها ترتدي صليبا الى جانب المصحف الذي رأته من قبل وخجلت ان تسألها من شدة وقار تلك المرأة، امتن حسن لرقصة القريبة. وبعد انتهاء الزفاف دخلت صافيا الحمام لتعدل من شأنها، لكن عديلة اقتحمت عليها الحمام وهي على وشك التبول وفي عينيها رغبة حارقة، انزعجت صافيا واستأذنتها برقة أنها ستسوي فستانها، وقفت عديلة عند الباب نافذة الصبر واقتحمت عليها مرة أخرى فخرجت صافيا تاركة اياها دون ان تفعل ما ارادت. توادعت وامها وابيها الذي تلفت للناس حواليه لحظة انطلاق السيارة. وقال "ما كان لها ان تتزوج، القفة لها ودنين، لازم يشيلها اثنين". في عصر ذلك اليوم أمرت والدة حسن بإخصاء خروف. شحنات التوتر المتصاعدة والعالقة في فراغ حجرة نومها، لن تؤدي الى كسر جسر معد للانفجار .. ويغرق حسن في نوبات من الضحك. * كاتبة مصرية.