مع انهيار الاتحاد السوفياتي (السابق) وانفصام القطبية الثنائية عام 1991، أصبحت الساحة الدولية مفتوحة على مصراعيها للولايات المتحدة لكي تسرح وتمرح بلا رادع ولا كابح باعتبار انها تمتعت بموضع المركز والقلب في المنظومة الدولية وأصبح لها حق تطبيق سياستها الخارجية بأهدافها المحددة المعتمدة على القوة والنفوذ بحسب اعتقادها، وفي مقدم هذه الأهداف بالطبع ردع كل من تسول له نفسه المساس بأمن اسرائيل وأمن الطاقة. إن الإدارة الأميركية تعلم علم اليقين ان هناك قوى صاعدة كالصين باتت تنازعها مسؤولية توجيه السياسات على المسرح الدولي وتحديد توجهاته بعد ان تغيرت بوصلة السلطة والقوة الموجهة للعبة السياسية التي ظلت لما يربو على نصف قرن بيد القوتين العظميين أميركا والاتحاد السوفياتي السابق، على رغم هذا ركبت بلاد العم سام رأسها وشنت الحروب انطلاقاً من شعورها بأنها القوة التي لا تدانيها قوة في العالم. وهذا الشعور بالقوة هو الذي أسكر الولاياتالمتحدة وقادها الى احتلال افغانستان (طالبان) في لمح البصر ولم تحرك روسيا والصين أصحاب القوة و (الفيتو) في مجلس الأمن حراكاً، وبصمْتٍ غريبٍ وربما مريب، وتلا احتلال أفغانستان ما هو أدهى وأمر وهو احتلال العراق الذي كانت اسرائيل تعتبره شوكة في نحرها، فقرر بوش الصغير، الذي أصبحت بلاده القطب الأوحد والمحرك الرئيس للأحداث الدولية، غزو ذلك البلد العربي وسقطت عاصمة الرشيد ليضرب الأمن القومي العربي في مقتل ويصفق الشارع الإسرائيلي ويرقص قادته طرباً. زال خطر عظيم كان يهدد اسرائيل وأطبق الأميركيون وأعوانهم على السلطة في العراق، وأطبقوا معها على النفط العراقي (115 بليون برميل احتياطي مؤكد) لتتفكك قوة اقتصاد بلاد الرافدين وتذهب ثرواته مع الرياح نهباً وسرقة، والكاسب الوحيد من غزو العراق هو اسرائيل وايران والخاسر الأوحد هو العرب الطيبون، وكما فعلت روسيا والصين وغيرهما تجاه احتلال افغانستان والعراق فإن العرب لم يفعلوا سوى التنديد وهو سلعة بائرة لا تغني ولا تسمن من جوع. ان الولاياتالمتحدة عندما حانت الفرصة لم تتركها تمر من دون اقتناصها، فانطواء الاتحاد السوفياتي السابق ثم تفككه جعل السياسة الخارجية الأميركية تكشر عن أنيابها وتطبق سياسة (القوة) تمارسها بكل صورها، والعلاقات الدولية في جوهرها ما هي الا علاقات (قوة)، فاستغلت الإدارة الأميركية قوة بلادها لقهر الدول الأضعف، واستطاع بوش الصغير ان يؤثر في سلوك دول كثيرة لتنضم إلى معسكره (القوي) بما يخدم مصالح بلاده، وصار له ما أراد بعد ان قاد معه التابع بلير وقطيع غيره. وإذا كان بوش قد غادر البيت الأبيض وبلير قد استقال من رئاسة الحكومة، فإن الرجلين يعتبران نفسيهما بطلين مغوارين حققا لبلادهما ولإسرائيل ما لم يحققه قادة اسرائيل للدولة العبرية، إذ إن الصهاينة لم يحلموا يوماً بأنهم سيحتلون بغداد على رغم أنهم يدعون ان ذراعهم القوية بإمكانها ان تضرب (بقوة) من باكستان إلى المغرب. وإذا كان هذا ما فعله الرجلان السيئا الذكر فإن السيد أوباما جاء إلى البيت الأبيض متحمساً لفعل شيء للعرب وخاطبهم من جامعة القاهرة واعداً إياهم بالمن والسلوى، واذا كان التشكيك بنيات الرجل فيه إجحاف، إلا أن الواقع المعاش بعد أكثر من 13 شهراً على دخوله البيت الأبيض يقول لا شيء تحقق والنتيجة (صفر)، بل ان اسرائيل تمادت أكثر في غيها وزادت من الاستيطان وعلى ذمة تقرير لمنظمة «بيتسيليم» الإسرائيلية فإن عام 2008 شهد بناء 1500 وحدة سكنية جديدة ليرتفع عدد المستوطنين الى أكثر من 300 ألف مستوطن يهودي في القدسالشرقية، هذا إلى جانب ما قام ويقوم به اليهود من تدنيس المسجد الأقصى وإجراء الحفريات بجواره وتحته وإقامة سراديب وممرات تمهيداً لهدمه، وفي الخامس عشر من هذا الشهر افتتح الصهاينة اكبر معبد يهودي (الخراب) لا يبعد عن المسجد الأقصى سوى 50 متراً فقط ضمن استراتيجية يهودية مبرمجة لبناء الهيكل الثالث المزعوم مكان المسجد الأقصى الذي يخطط الصهاينة لإزالته، بل ان الدولة العبرية أنهت المخططات لبناء 50 الف وحدة استيطانية في القدس، وقامت الحكومة الإسرائيلية بضم الحرم الإبراهيمي في الخليل ومسجد بلال بن رباح في بيت لحم الى المعالم التراثية الإسرائيلية. واستقبل نتانياهو وزملاؤه نائب الرئيس الأميركي بايدن في زيارته إسرائيل بهدية من الوزن الثقيل، هي قرار بناء 112 وحدة سكنية في مستوطنات بيتار عيليت قرب بيت لحم، تستوعب أكثر من 1600 مستوطن يهودي، ولم يفعل الرجل سوى إطلاق التنديدات المتعارف عليها بين الأميركيين والإسرائيليين ثم تعود المياه إلى مجاريها، ولعبة الكلمات هذه اعتاد عليها العرب منذ عام 1947 حتى اليوم وستستمر. ولم يترك بايدن الفرصة تضيع فأعلن حبه الكبير لإسرائيل من داخل سويداء قلبه مخاطباً الإسرائيليين خلال زيارته قائلاً: (إسرائيل قريبة من قلبي وكانت في مركز اهتماماتي كسيناتور، والآن كنائب للرئيس) وأضاف: (ندرك انه لا يوجد للولايات المتحدة صديق أفضل من اسرائيل في المجتمع الدولي، العلاقات بيننا متميزة وفي مجالات عديدة وفي اطارها التزامنا الثابت بأمن اسرائيل وفضلاً عن الدعم الأمني السنوي بمبلغ ثلاثة بلايين دولار فإننا نسعى دائماً إلى الحفاظ على التقدم العسكري النوعي لإسرائيل. ومن جانبها أعلنت السيدة كلينتون الثلثاء الماضي ان بلادها التي ألغت زيارة ميتشيل مبعوث السلام إلى الشرق الأوسط (ملتزمة في شكل مطلق بأمن إسرائيل). إن العرب فعلوا الكثير من اجل السلام حتى انهم وقفوا الى جانب اخوانهم الفلسطينيين ليبدأوا محادثات غير مباشرة للسلام مدتها أربعة أشهر باقتراح أميركي للخروج من مأزق توقف المفاوضات السابقة المباشرة منذ اوسلو ومدريد وغيرها أتت بنتائج لا تزيد على (الصفر) بل انها منحت اسرائيل مزيداً من الوقت لابتلاع الأراضي الفلسطينية وشن الحروب على أهل الأرض الأصليين وتهجيرهم وإحلال اليهود محلهم وتقطيع أشلاء غزة وتدميرها على رؤوس أهلها في ظل تناطح القادة الفلسطينيين في ما بينهم ليكونوا ما أسموه دولتين، دولة ل «فتح» في الضفة وأخرى ل «حماس» في غزة. وفي الوقت الذي تتبادل فيه أميركا واسرائيل كؤوس الغرام وكلمات الغزل الدافئة وفي الوقت الذي تبني فيه اسرائيل المستوطنات وتخطط لهدم الأقصى وتهويد القدس يبدو المشهد الفلسطيني كالحاً ومحزناً، فالقادة الفلسطينيون يشنون الحروب على بعضهم، وتعاونوا على تقطيع أوصال قضيتهم الكبرى، وإضعاف قوتهم، والعرب المشتتون استغلوا خلاف «حماس» و «فتح» لينفض أكثرهم يده من القضية، والمفاوضات المباشرة وغير المباشرة ماتت، وحتى العهود والوعود التي قطعها قادة «فتح» و «حماس» بجوار الكعبة المشرفة انقلبوا عليها. اليوم أصبحت المعادلة واضحة بعد أكثر من 18 سنة على انطلاق قافلة مفاوضات السلام. أصبح السلام سراباً وبسبب طمع القادة الفلسطينيين في السلطة الموهومة وبسبب الفساد الذي جعل عشرات البلايين التي دفعها بعض العرب المخلصين لدعم الشعب الفلسطيني يستقر معظمها في جيوب عدد محدود من قادة فلسطين وبقي أكثر من 76 في المئة من الشعب الفلسطيني تحت خط الفقر بل ان بعضهم يموت جوعاً. ولم يبقَ أمام السلام والقضية الفلسطينية سوى أطفال الحجارة بعد فشل قادتهم في حمل الأمانة، وعلى الأمة العربية اليوم اعادة حسابات السلام واستراتيجياته مع اسرائيل والولاياتالمتحدة التي تخالف أقوالها أفعالها وينطبق عليها المثل (اسمع كلامك أصدقك أرى أفعالك استعجب) والعجب أننا على مدى عقود عديدة صدقنا وعود الإدارات الأميركية المتعاقبة وآمنا انها ستحقق السلام والعدل، والنتيجة كانت (صفر) فلا سلام ولا عدل لأننا الطرف الأضعف والسلام لن يتحقق إلا (بالقوة). اجتماع القمة القادم في ليبيا فرصة لإصدار بيان يضع الخطوط الرئيسة للدفاع عن القدس المغتصبة، القدس والمسجد الأقصى المهددين بالدمار والإزالة والتهويد، فالعرب أمام الحقيقة، وعليهم ان يسألوا أنفسهم هل نحن صادقون جادون أم لا؟ ان فلسطين تحتاج إلى هبّة عربية إسلامية، تحتاج إلى موقف عربي – اسلامي عجز حتى الآن ان يفعل شيئاً، وعجز ببساطة لأننا ضعفاء، ولأننا ضعفاء فنحن لا نملك ثمن السلام ولا مفاتيحه. * رئيس مركز الخليج العربي للطاقة والدراسات الاستراتيجية. [email protected]