سواء انتهت محاكمة الرئيس الاميركي بعزله او إبقائه في منصبه، من المؤكد ان وقوع هذا الحدث التاريخي يترك، في حد ذاته، بصمة واضحة على السياسة الخارجية الاميركية. فهذه المحاكمة انما تمثل احدى الحلقات الحاسمة في سلسلة طويلة من الاحداث والوقائع التي تدفع النظام السياسي الاميركي نحو ما سماه ودرو ويلسون "حكومة الكونغرس". ومن شأن ذلك ان يضفي مزيداً من الارتباك والفوضى على سياسة اميركا الخارجية. منار الشوربجي تقرأ الحدث مجدداً. على رغم ان البعض لا يزال يفضل تناول السياسة الخارجية الاميركية بمعزل عن تفاعلات النظام السياسي، الا انه ثبت في العقد الاخير انه لا يمكن غض الطرف عن الداخل الاميركي عند تحليل السياسة الخارجية. ومن بين العوامل الداخلية التي تلعب دوراً محورياً في تشكيل السياسة الخارجية الاميركية مسألة التوازن المؤسسي بين الكونغرس والرئاسة. بل تزعم كاتبة هذه السطور ان كل ما يقال اليوم عن "ارتباك" السياسة الخارجية الاميركية او "افتقارها لرؤية استراتيجية واضحة" - على رغم صحته - لا يعدو ان يكون تشخيصاً للحال وعرضاً من اعراضها. اما العلة الاساسية فهي التزايد المطرد في اختلال التوازن بين المؤسستين، والذي وصل مع منتصف التسعينات الى مستويات اعلى من النطاق الذي رسمه الدستور ليضمن عدم ابتلاع احداهما لصلاحيات الاخرى. وبادئ ذي بدء، تنبغي الاشارة الى ان مؤسسة الرئاسة تحمل في جوهرها من مكامن الضعف اكثر من مكامن القوة، وذلك بحكم صلاحياتها الدستورية وموقعها ضمن غيرها من المؤسسات، الا ان هذه المؤسسة كانت نجحت طوال هذا القرن في الاحتفاظ بالحد الادنى المطلوب، وكان النجاح في الحفاظ على هذا الحد الادنى يشهد صعوداً وهبوطاً، بناء على القدرات الشخصية لكل رئيس ومستوى شعبيته وكفاءة فريق العمل التابع له. ومن ناحية اخرى، احتمت الرئاسة دوماً وراء حائط قوي تمثل في سريان الشعور العام - حتى وإن كان وهمياً - بأن البلاد في حال حرب، او على وشك الانخراط في الحرب، بما يتطلب يداً تنفيذية قوية لحماية الامن القومي. الا ان كل ذلك لم يكن كافياً، بالمطلق، لرجحان كفة الرئاسة، فقد انحسر نفوذ هذه المؤسسة بالذات بعد حكم نيكسون، بسبب حرب فيتنام وفضيحة "ووتر غيت"، حيث تزايد الاهتمام بضرورة ردع الرئاسة وتحجميها، ثم شهدت الفترة الممتدة منذ منتصف السبعينات وحتى نهاية الثمانينات ضعفاً متزايداً للرئاسة لأسباب بعضها هيكلي مثل التغيير الذي احدثته الاحزاب في ميكانزمات اختيار مرشح الرئاسة وقوانين تمويل الحملات الرئاسية ما اثر سلبياً على نفوذ الرئيس المنتخب على حزبه في الكونغرس، بينما تعلق بعضها الآخر بارتفاع الشك الجماهيري ازاء الساسة والسياسيين في واشنطن عموماً، ما دعّم من قوة الكونغرس على تحدي الرئيس. ثم جاء انتهاء الحرب الباردة ليزيد من ضعف مؤسسة الرئاسة، اذ لم يعد هناك عدو واضح ينبغي لمواجهته وجود رئاسة قوية، وعبر كلينتون عن هذا المأزق في بداية ولايته الاولى حين قال "يا الهي.. كم افتقد الحرب الباردة"! وفي الواقع كانت النذر الاولى لذلك المأزق برزت في عهد الرئيس جورج بوش. فعلى رغم انه انتزع موافقة الكونغرس على ارسال قوات الى الخليج، الا ان هذا القرار كان عارضه 42 في المئة من اعضاء مجلس النواب و47 في المئة من اعضاء مجلس الشيوخ. وهي نسبة لا يمكن اعتبارها تمثل الموقف التقليدي في الوقوف صفاً واحداً خلف الرئيس في اوقات الازمات الخارجية. ولم يقف مأزق الرئاسة عند هذا الحد. اذ ازداد خطورة مع حصول الجمهوريين على الغالبية في الكونغرس العام 1994. فهذا الفريق من الجمهوريين - بزعامة غينغريتش - كان فريقاً صدامياً دخل مع كلينتون منذ اليوم الاول معركة لم تقم فقط على مضمون السياسات العامة، وانما حول صلاحيات الرئيس اصلاً. ولعل كلمات غينغريتش التي صرّح بها فور توليه رئاسة مجلس النواب وقتها، تعبر عن نفسها، إذ قال "سنحاول ان نعلم الرئيس ان استخدام الضمير انا لم يعد مجدياً"، في اشارة صريحة الى اصرار الكونغرس على مزاحمة الرئيس في مهامه وصلاحياته. وكان وعي كلينتون بهذا البعد وراء تصريحه المثير للانتباه، والذي اطلقه في تلك الفترة نفسها، والذي قال فيه "ما زال لوجودي اهمية" I AM STILL RELEVANT وهو في الواقع تعبير بالغ الدلالة لا يحتاج الى تعليق. ولم تقتصر المسألة على الاقوال، وانما امتدت الى افعال واضحة في السياسة الداخلية والخارجية على السواء. فلا حاجة الى سرد تلك القائمة الطويلة من القوانين التي اصدرها الكونغرس وصنعت العديد من قرارات السياسة الخارجية رغم معارضة الرئيس. ثم جاءت محاكمة كلينتون لتصل باختلال التوازن الى معدلات غير مسبوقة. فنحن اليوم ازاء كونغرس فرضت فيه الغالبية موقفها فرضاً وفي تحدٍ واضح حتى للرأي العام. وهو موقف قام في مجلس النواب على الاستجابة لمصالح حزبية ضيقة تتعلق بدوائر انتخابه لا تمثل اكثر من بؤر يمينية وسط بحر من الرفض لميول هذا القطاع. بعبارة اخرى، صارت هيمنة المؤسسة الاشتراعية اكثر وضوحاً من اي وقت مضى، وصارت تلعب الدور المحوري في صنع السياسة العامة. وبصعود "حكومة الكونغرس" لنا أن نتوقع سياسة خارجية اميركية أكثر فوضى وارتجالاً عما هي عليه الآن فعلاً. فمن شأن هيمنة المؤسسة الاشتراعية ان تترك على السياسة الخارجية بصمتها نفسها على السياسة الداخلية الاميركية، وهي بصمة تجسد بوضوح مجموعة من الخصائص الفريدة لهذه المؤسسة التي تتسم بدرجة عالية من اللامركزية في صنع القرار وتقوم في عملها التشريعي على تفكيك القضايا الى جزئيات صغيرة، يتم التعامل مع كل منها على حدة، ثم جمعها في ما بعد على نحو يشبه "الموزايك" اكثر مما يشبه الخريطة المتكاملة واضحة المعالم. وعلى ذلك لنا ان نتوقع سياسة خارجية اميركية تقوم على اتخاذ القرارات "بالقطعة" وفق كل حال على حدة، هذا فضلاً عما هو اخطر في الواقع، وهو ارتكازها، اكثر من اي وقت مضى، على مصالح داخلية ضيقة خصوصاً في مجلس النواب الذي لا يهم النائب فيه اكثر من حدود دائرته التي تعيد انتخابه. ولنا ان نتوقع ايضا بطئاً شديداً في اتخاذ القرار نتيجة الصراع المحتدم مع الرئاسة، بل وبين مجلسي النواب والشيوخ اللذين يؤدي اختلاف طبيعتهما الهيكلية الى صراعات تقليدية ناتجة عن الانطلاق من حسابات سياسية متباينة. معنى ذلك - في رأيي - ان نبدأ من الآن الاستعداد لتناول السياسة الخارجية الاميركية بعيداً عن الاساليب التقليدية المعتادة في التعامل معها، فلا مكان لانتقادها بأنها "تفتقر الى الرؤية الشاملة" ولا بأنها "خالية من مضمون متماسك"، اذ سيكون ذلك مجرد "وصف" لشكل هذه السياسة، وربما تكون مهمتنا الرئيسية في المرحلة المقبلة هي الاجتهاد في قراءة السياسة الخارجية الاميركية على اسس جديدة تختلف عن الاطر النظرية المعروفة في تحليل السياسة الخارجية عموماً. وهي بلا شك مهمة صعبة، وان كانت ليست مستحيلة. وتبقى ملاحظة اخيرة، فرغم ان كل المؤشرات الحالية تشير، على الارجح، الى اننا ازاء فترة ما من "حكم الكونغرس"، فإن اقصى ما يمكن ان نأمل فيه هو ان تنتهي الازمة الدستورية الحالية الى حال قصوى من الغضب الجماهيري ينتج عن تفاعلاتها تحجيم المؤسسة التشريعية وصعود ما يسمى "الرئاسة الامبراطورية" على طريقة نيكسون. فاستناداً الى التاريخ الاميركي، فإن الازمات الكبرى للنظام السياسي عادة ما تفرز اكثر الانماط راديكالية، وهي في ما نحن بصدده اما "حكم الكونغرس" او "الرئاسة الامبراطورية" حيث يمثلان القطبين الاكثر تطرفاً في اختلال التوازن بين المؤسستين لمصلحة احداهما بلا منازع. ورغم ان سيناريو "الرئاسة الامبراطوررية" قد ينقذ السياسة الخارجية - على المدى القصير - من براثن الفوضى، الا انه ذو تكلفة باهظة بالنسبة الى الداخل الاميركي من شأنها ان تطرح بآثارها السلبية - في المدى الاطول - على السياسة الخارجية خصوصاً ان هذا النمط سيتسم هذه المرة، على الارجح، بمسحة عالية من البيوريتانية الاميركية التي لا تقل تطرفاً في اثرها على السياسة الداخلية والخارجية عن اثر "حكم الكونغرس".