تكاد الديكتاتوريات العسكرية تختصر تاريخ القارة الأميركية اللاتينية، منذ بدأت بلدانها تستقل تباعاً في القرن الماضي. لكن "السيد الرئيس"، أول رواية تعري الديكتاتورية من كل أقنعتها المزيفة، وتشهر بالقمع السياسي والظلم الاجتماعي، لم تظهر إلا في عام 1946، إذ صدرت في مكسيكو - هي مكتوبة في عام 1932 - ووقعها الغواتيمالي ميغيل انخيل استورياس، الذي نال جائزة لينين عام 1966، وجائزة نوبل عام 1967. وتندرج "السيد الرئيس" في اطار التقليد اللاتيني - الأميركي لرواية الديكتاتورية، بعد أن وقع الإسباني رامون دل فايه انكلان "تيرانو بانديراس"، وتلتها روايات مهمة وعالمية، مثل "خريف البطريرك" لغابرييل ماركيز، و"أنا الأسمى" لأوغوستو روا باستوس، وهذه الروايات مستوحاة من الفساد، واستغلال النفوذ السياسي، والرعب اللاحق بالجماعة في عالم التسلط الفردي على حياة شعب غابت عنه العدالة، وكل شيء فيه يخضع لإرادة ونزوات "الشخص"، الذي لا يمكن معارضته، كل هذه الأمور قواسم مشتركة بين العهود الديكتاتورية من القارة الأميركية اللاتينية، وفي كل العالم. و"السيد الرئيس" التي وقعها استورياس مدينة غواتيمالا 1899 - مدريد 1974، مستوحاة من ذكريات المراهقة، ومن الأحداث التي عاشها الطالب الذي شارك في النضال السلمي ضد ديكتاتورية استرادا كابريرا 1857-1920، وانضم الى الحزب الوحدوي، ليشارك في الحياة السياسية لوطنه، ويختار "قضية الهندي الاجتماعية" موضوعاً لرسالته في الحقوق. وقد ظلت الإلتزامات السياسية - الاجتماعية، دافعاً للكتابة في حياة ميغيل - انخيل استورياس الأدبية، وثابتة في انتاجه، تميزت بها روايته الأولى "السيد الرئيس"، وثلاثيته: "رياح قوية" - 1949، "البابا الأخضر" - 1954 - و"عيون المدفونون" - 1960 -، التي يفضح من خلالها الإمبريالية الاقتصادية والسياسية، لشركة الموز - الشركة المتحدة للفاكهة - التي اتخذت من أميركا اللاتينية الوسطى مقراً لها. وتكمل أقاصيص "نهاية الأسبوع في غواتيمالا" - 1956 - الثلاثية، لأنها تتمحور حول الإمبريالية السياسية لشركة الموز ذاتها، وامبريالية جار الشمال، وتروي حكاية "الغزو" لغواتيمالا، خلال حكم "آربنز" الليبيرالي، الذي لم يدم طويلاً، الذي أطاح به كاستيو آرماس بمساعدة الولاياتالمتحدة الأميركية. يبرع استورياس في "السيد الرئيس" بتصوير واقع الديكتاتورية في غواتيمالا، انطلاقاً من تجربة محددة جغرافياً وتاريخياً - ديكتاتورية استرادا - وتتجاوز ملامحها اطار المكان والزمان، لتكتسب شمولية واضحة، تختصر في أبعادها واقع الديكتاتورية وحقيقتها في القارة الأميركية اللاتينية، وفي أصقاع أخرى من العالم في القرن العشرين: التعطش الفردي للسلطة والنفوذ، ارهاب الجماعة بكل طبقاتها، وفتح أبواب الزنزانات أمام الرأي الآخر المغاير في بداية الرواية، نقف مع استورياس، شهوداً على واحدة من عمليات القمع السياسي، ومسرحها ساحة "بورتال دل سينيور" لقد استغل الديكتاتور - هو يجسد قوى الشر، ويشبه التنين - اغتيال الجنرال خوزي باراليس سونرتيني، على يد أحد المتخلفين عقلياً، ليأمر رجاله القيام بحملة اعتقالات جديدة... في ساحة بورتال دل سينيور، نسمع من بعيد، صدى لخطوات فرقة عسكرية، تجرجر سجيناً سياسياً، تلحق به نساء ينظفن اثار الدم، بمناديل مبللة بالدم. في غواتيمالا، وكما في القارة الأميركية اللاتينية، وفي العالم، يبقى رأي الديكتاتور هو الرأي الأوحد، لأن صاحبه هو الأرفع والأسمى بين البشر، الذين لا يفقهون شيئاً. يقول "السيد الرئيس" لكارا دل انخيل، في أحد الأيام التي كان راضياً عنه فيها، وقبل أن يرمي به في غياهب السجون ما معناه: ان للناس نيات حسنة ليقوموا بشيء ما، لكن الإرادة تنقصهم، ولذلك لا يقوم أحد بعمل ما، وهو الرئيس، لذلك يتوجب عليه القيام بكل شيء، وهذا القول يعني من وجهة نظر السلطة، أن الديكتاتورية - أو النفوذ الشخصي - توجد في بلد ما، لأن المواطنين العاجزين، لا يستطيعون أن يسهموا "بعبقرية" في إدارة الحياة العامة، والديكتاتورية تحتاج الى مساندة الولاياتالمتحدة الأميركية. وبدوره، يسأل كارا دل انخيل، رفيقه في الزنزانة رقم 17: "أي جريمة ارتكبت بحق السيد الرئيس"؟ وتبقى السجون الوجه الآخر المخفي للعهود الديكتاتورية، التي تقوم على القمع السياسي، وتحتمي بمظلة المبادىء الإنسانية والعدالة، وتدعمها جماعة من دمى متحركة - كما في مسرح دون بنجامين وزوجته دونيا فيخامون - مهمتها أن تجمّل صورة الواقع الأليم، بأقنعة زائفة: ان "اودتيور دي غيرا"، أحد المسؤولين الكبار في الدولة، يضع على مكتبه تمثالاً للآلهة تيميس، الممثلة الكلاسيكية للعدالة المطلقة. لكن الناظر الى هذا التمثال، لا يستطيع إلا أن يفكر بالظلم اللاحق بالبشر، وبالمحاكمات الصورية، التي ينبغي فيها على الذين يفكرون "بقبعاتهم"، أن يقرأوا وهم ثملون أحكاماً مسبقة، بعد أن يستمعوا الى شهود الزور. تبقى السجون الوجه الآخر للديكتاتورية في غواتيمالا والذي لا يجرؤ أحد على أن يلمح الى وجوده، ولا يشعر به إلا المساجين أنفسهم وأهلهم وأصحابهم: يفكر أحد المسجونين، وهو يختصر عالمه العتم، ان كل شيء في المدينة يظل هادئاً، كما لو أن لا شيء يجري داخل السجون، وكأننا لسنا مسجونين هنا، وان القطار يتابع سيره. لكن أحرار المدينة في العهد الديكتاتوري، ليسوا أسعد حظاً من الذين يعيشون وراء القضبان، لأنهم أسرى سجن كبير آخر، فخلال الاحتفال بتكريم الديكتاتور، يلتقي المجتمع بكل طبقاته في "بلازا سنترال" - أي الساحة المركزية -، ويدور ناس من أفضل أهل المجتمع حول الحديقة... يدورون باستمرار، ويظل الفقراء صامتين، وخاشعين، كأنهم يحضرون احتفالاً بإلقاء التحية وبإطراء الدائرين حول الحديقة، التي يحيط بها سياج حاد الرؤوس، يذكر عفوياً بقضبان السجن، حيث يموت طفل "فيدينا" بين ذراعيها، لأنه لم يسمح لها بإرضاعه. وبعيداً عن السجون، لا تخلو الرواية من أحداث العنف، فالسكرتير العجوز للديكتاتور يموت لشدة ما ضرب بالعصا، لأن محبرة اندلقت في مكتبه: هكذا تنقضي حياة البشر في العهود الديكتاتورية، وتمتصها بلا رحمة دائرة ضيقة مغلقة... وهكذا يتقاسم المدينة سجنان لا مرئيان يدور فيها الأنسان بيأس وخضوع، وهو يبحث عن الآفاق البعيدة، التي يلمح فيها من ظلماته بصيص أمل. ولكن، إذا كان واقع الديكتاتورية في القارة الأميركية اللاتينية أليماً ومتعباً الى هذا الحد، فهل يعني ذلك، ان ميغيل انخيل استورياس، يترك سجناء الديكتاتورية في غواتيمالا، أمام حائط مسدود في المدينة، أو أنه يسلط نور كلماته على أفق لا مرئي، يمكن أن تحول اليه أبصار المظلومين الذي يموتون مثل كارا دل انخيل في السجن وخارجه؟ في نهاية الرواية، تفر كاميل زوجة كارا دل انخيل الى الريف، حيث لا تطالها الملاحقة السياسية، وحين تبقى بعيدة عن الفساد المديني، وتنقذ في الوقت ذاته ابنها الوحيد، فينشأ ميغيل الصغير في الريف، ولم تعد قدما كاميلا لتطأ المدينة، وقد ابتعدت نهائياً عن مجتمع الفساد والرعب، وظلت مطمئنة البال مع الفلاحين، فالقسوة والرعب صنيعة البشر الملوثين بالفساد، البعيدين عن الفطرة والمحبة، والريفيون يستطيعون لطيبتهم ونقائهم أن يجملوا وجه الحياة في ظل العدالة الإنسانية، ليهزموا الأنانية والموت، ولا يعني النفوذ السياسي عندهم شيئاً.