كتب الكثير عن منظمة التجارة الدولية ودورها في التأطير القانوني للتجارة العالمية في السلع والخدمات. ومنذ بداية مفاوضات انضمام المملكة العربية السعودية إلى المنظمة اجتهد الكثيرون في تحليل اثر ذلك الانضمام على صادرات المملكة ووارداتها، السلعية وعلى أداء القطاعات الاقتصادية المختلفة ونظامها التجاري وعلاقاتها الاقتصادية الدولية. ويتعرض مسار انضمام المملكة إلى المنظمة وعلاقة الدول المصدرة للنفط عموماً بالمنظمة لدى غير المراقبين إلى الكثير من اللبس وسوء الفهم . وأحد مصادر ذلك اللبس مقولة مفادها أنه طالما كان النفط ومنتجاته خارج إطار منظمة التجارة الدولية وأن نحو تسعين في المئة من صادرات المملكة هي من النفط ومنتجاته، فلا جدوى من الانضمام إلى منظمة تستبعد سلعة التصدير الأساسية للمملكة من مظلتها. ويجادل بعضهم أن الدول الصناعية تعمدت استبعاد النفط من أحكام المنظمة وقبلها اتفاقية الغات، ليتسنى لها فرض ضرائب على استهلاك المنتجات النفطية في دولها، حيث تصل في الكثير منها إلى أكثر من أربعة أضعاف سعر الزيت الخام واردا إلى تلك الدول. فما مدى صحة هذه المقولة، وهل يمكن أن تستفيد الدول المنتجة والمصدرة للنفط من عضوية المنظمة، وما هو مستقبل النفط في النظام التجاري الدولي؟ تهدف اتفاقية الغات إلى تحرير التجارة بالسلع عموماً. وبعد جولة أوروغواي أصبحت اتفاقات منظمة التجارة العالمية التي حلت محل الغات تعني بتحرير التجارة بالسلع والخدمات كافة. وليس على حد علمي في نصوص اتفاقية الغات الأصلية أو نصوص الاتفاقات اللاحقة التي انبثقت عنها منظمة التجارة الدولية ما يفيد استبعاد التجارة في النفط ومنتجاته من أحكام الاتفاقية. ويبدو أن النص الذي فهم منه البعض أن النفط قد استبعد هو المادة العشرون الفقرة السابعة من الاتفاقية المتعلقة بالإستثناءات الخاصة بالموارد الطبيعية القابلة للنضوب والمتعلقة بوضع قيود على الصادرات من تلك الموارد الطبيعية والنفط منها بشروط محددة للحفاظ على الموارد من النضوب. وما عدا ذلك بالنسبة إلى قيود الصادرات، ليس في اتفاقية الغات والاتفاقات اللاحقة ما يمنع من الاحتكام إليها في الأمور الأخرى المتعلقة بتجارة النفط ومنتجاته. بل أنه وكما سنوضح لاحقاً كانت تجارة وعلاقات النفط ماثلة عند مناقشة انضمام بعض الدول المصدرة للنفط إلى اتفاقية الغات سابقاً ومنظمة التجارة الدولية لاحقاً. وكانت أيضاً ماثلة في حالات عدة تم الاحتكام فيها إلى نصوص الاتفاقات التجارية ذات الصلة في خلاقات تجارية محددة متعلقة بالنفط نشأت بين الدول الأطراف في الاتفاقية أو الأعضاء في المنظمة. ويبدو أن مصدر اللبس الآخر حول دور النفط في منظمة الغات وما تبعها ناتج عن التفاهم الضمني بين الأطراف المتعاقدة في الاتفاقية بعدم التعرض بالتحديد لممارسات تجارة النفط خلال صياغة الاتفاقية عام 1947 وما تبعها من جولات تفاوضية. وكان السبب الرئيسي حينذاك القناعة بالطبيعة الاستراتيجية والجوانب السياسية لسلعة النفط ولأن الشركات الاحتكارية للدول الصناعية الرئيسية حينذاك الولاياتالمتحدةوفرنسا وبريطانيا كانت تسيطر على مجمل تجارة النفط العالمية. لذلك كان عدم التعرض للنفط في جولات المفاوضات ما يبرره من وجهة نظر الدول الأعضاء، خصوصاً أن معظم الدول المصدرة للنفط إما لم تكن طرفاً في الاتفاق خلال تلك الفترة أو أن حكوماتها كانت تتفاوض من جانبها مع الشركات العالمية للحصول على شروط أفضل جراء إنتاج النفط وتصديره من أراضيها. وتزامن انتقال قرار تسعير وإنتاج النفط من الشركات العالمية إلى حكومات الدول المنتجة في أوبك مطلع السبعينات مع الحظر النفطي العربي خلال حرب تشرين الأول اكتوبر 1973 وأزمة الطاقة الأولى في الدول الصناعية. وخلال جولة المفاوضات التجارية المعروفة بجولة طوكيو في السبعينات، أرادت الولاياتالمتحدة أن تدرج موضوع قيود الصادرات ومن ضمنه موضوع الحظر النفطي ضمن اهتمامات الجولة، لكنها واجهت معارضة من الدول الصناعية الأخرى بما فيها اليابان وكندا وفرنسا والدول النامية كل لأسبابه، لذلك جرى استبعاد الموضوع والاكتفاء بما ورد في اتفاقية الغات حول شروط تطبيق قيود الصادرات الوارد في المادة العشرين. والواقع أن الموضوع الأخير أصبح أكثر أهمية للدول المصدرة للنفط في أوبك وعلاقاتها بالنظام التجاري الدولي بعد انتهاء جولة أوروغواي عام 1979، إذ بدأت المنظمة منذ عام 1972 العمل بنظام حصص الإنتاج لإعادة التوازن إلى السوق النفطية والمحافظة على مستويات الأسعار. وخلال مفاوضات انضمام المكسيكوفنزويلا إلى الغات عامي 1986 و 1990 برز موضوع سياساتها النفطية مما تطلب من المكسيك الإشارة في بروتوكول انضمامهما إلى المادة 20 في الاتفاقية التي تجيز ضمن أمور أخرى، وضع قيود على صادرات النفط لارتباط ذلك بالوضع السيادي للدولة على مواردها الطبيعية، وطالما لم يميز بين الصادرات والإنتاج والاستهلاك المحلي. علماً بأن أياً من دول أوبك التي انضمت إلى اتفاقية الغات أو منظمة التجارة الدولية لم تواجه مشاكل مع الدول الأخرى في الاتفاقية بسبب تطبيقها حصص الإنتاج، ليس بسبب استبعاد النفط كما يعتقد البعض، بل لأن حصص الإنتاج في أوبك تعرف على أساس الصادرات والاستهلاك المحلي، وهي منسجمة في شكل أو في آخر بأحكام المادة 20 المشار إليها الخاصة بالإستثناءات للموارد الناضبة أو اتفاقيات السلع أو المادة ال 11 من الاتفاقية المتعلقة بالقيود الكمية. ويشير البعض إلى عدم ورود تجارة النفط ومنتجاته في مفاوضات التنازلات الجمركية خلال جولات التفاوض المتعاقبة للغات كدليل على استبعاده من أحكام الاتفاقية، ولكن عدم تضمينه في جولات التفاوض يعود إضافة إلى ما أشرنا إليه، إلى أن اتفاقية الغات الأصلية وجولات المفاوضات اعتنت بالسلع الصناعية أساساً وتجاهلت المواد الخام بما فيها النفط إضافة إلى أن الرسوم الجمركية على النفط الخام في كثير من الدول المستوردة، إما منخفضة أو معدومة. والسبب في ذلك يعود إلى رغبة تلك الدول بناء صناعة تكرير محلية قادرة على البقاء، الأمر الذي يستدعي دخول الخام إليها بأقل الرسوم، أو يعود إلى قلة الإنتاج المحلي من الخام لديها مما لا يتطلب حماية. يضاف إلى ذلك أن الدول المختلفة تمارس تأثيرها الأكبر على تجارة النفط ليس من خلال السياسات التجارية والجمركية بل من خلال سياسات الطاقة والسياسات المالية والضريبية. فهي تشجع مصادر الطاقة البديلة للنفط من خلال الأبحاث والأنظمة المحلية المختلفة وغيرها، وهي تؤثر في أسعار النفط واستهلاكه من خلال الضرائب المحلية على المنتجات النفطية البنزين والديزل وإلى حد ما من خلال الرسوم أو القيود الجمركية على المنتجات. وهذه الأخيرة تعتبر منخفضة نسبياً في الدول الصناعية الرئيسية، بل أن الاتحاد الأوروبي والولاياتالمتحدةواليابان عملوا على تثبيت الرسوم على النفط الخام ومنتجاته بعد جولة أوروغواي عند مستويات متدنية نسبياً، تصل في المتوسط إلى ثلاثة في المئة في الاتحاد الأوروبي والولاياتالمتحدة و1.7 في المئة في اليابان. علماً أن حجم تجارة المنتجات النفطية المكررة بين تلك الدول والمجموعات هو أعلى من حجم تجارة المنتجات بينها وبين الدول النامية المصدرة للنفط. وعلى سبيل المثال، فيما كانت حصة أوبك في التجارة العالمية من الخام حوالي 55 في المئة عام 1997، كانت حصتها من تجارة المنتجات المكررة في ذلك العام نحو 29 في المئة فقط. أولاً يعني عدم دخول النفط ومنتجاته في إطار التنازلات الجمركية خلال جولات المفاوضات المختلفة أنه غير مشمول بمبادئ الغات ومنظمة التجارة الدولية الأخرى مثل مبدأ الدولة الأولى بالرعاية أو مبدأ المعاملة الوطنية، بدليل أن مواضيع عدة متعلقة بالنفط عرضت على نظام تسوية النزاعات التجارية في الغات ومنظمة التجارة الدولية. إذ تظلمت المكسيك وكندا ودول أخرى عام 1986 من قانون أميركي يفرض ضرائب على الزيت المستورد لغرض تنظيف البيئة البحرية، وكانت حجة تلك الدول تستند على مبدأ المعاملة الوطنية، أي أن القانون الأميركي المعني يميز بين النفط المستورد والمنتج محلياً. وخلصت نتيجة القضية ضد الولاياتالمتحدة التي اضطرت إلى تعديل القانون المذكور عام 1989. وحصل شيء مشابه عام 1994 عندما وضعت الولاياتالمتحدة أيضاً مواصفات بيئية للبنزين وميزت في آليات تطبيقية بين البنزين المستورد والمنتج محلياً. وعندما تظلمت فنزويلا والبرازيل وهي دول مصدرة للبنزين إلى الولاياتالمتحدة لدى منظمة التجارة العالمية حكمت اللجنة المشكلة لهذا الغرض بعدم انسجام الممارسات الأميركية في هذا المجال مع أحكام المنظمة. ويمكن الاعتداد بمبادئ المنظمة المشار إليها وإلى الاتفاقات التجارية المختلفة المنبثقة من جولة أوروغواي بالنسبة إلى مواضيع نفطية أخرى للدول المصدرة والمستهلكة قد تبدو ذات صبغة داخلية ولكن لها تبعات خارجية. وأحد تلك المواضيع أسعار منتجات الطاقة المحلية في تلك الدول وأثرها في حرية التجارة ومبادئ الدولة الأولى بالرعاية والمعاملة الوطنية. وظهر هذا الموضوع بالنسبة للدول المصدرة خلال مفاوضات انضمام بعض تلك الدول مثل المملكة وروسيا إلى المنظمة. وكانت الحجة المستخدمة في الاعتراض على نظم أسعار الطاقة للمستخدمين المحليين فيها أن بعضها قد ينتج عنه إعانة مما يتعارض مع أحكام "اتفاقية الإعانات والتدابير المضادة" الناتجة عن جولة أوروغواي. وكان موضوع أسعار الغاز الطبيعي وسوائل الغاز للصناعة المحلية وخصوصا صناعة البتروكيماويات السعودية قد واجه المملكة حتى قبل مفاوضات انضمامها إلى المنظمة، إذ قامت مجموعات صناعية عدة في الاتحاد الأوروبي وفي الولاياتالمتحدة قبل بضعة أعوام برفع قضايا إغراق ضد بعض مشاريع الشركة السعودية للصناعات الأساسية سابك بدعوى أن أسعار لقيم الغاز الطبيعي لتلك المشاريع يمثل إعانة تستدعي إجراءات مضادة للإغراق. ولكن فشلت تلك القضايا حينذاك في إثبات عنصر الإعانة إذ ليس في المملكة سوى سعر واحد للغاز الطبيعي حيث لا يصدر إلى الخارج ولا يوجد تمييز بين المستخدمين المحليين للغاز ولا ترتبط أسعاره بالأداء التصديري للصناعات، وهي الشروط الرئيسية لإثبات الإعانة. ومن المواضيع المرتبطة بمفهوم الإعانة الناتج عن أسعار الطاقة المحلية ما يعرف بالازدواج السعري في بعض الدول المصدرة للنفط، أي الفرق بين سعر تصدير منتجات الطاقة والسعر للمستخدمين المحليين وفيما إذا كان ذلك الفرق يمثل إعانة تستوجب إجراءات مضادة تبعا لاتفاقية الإعانات والتدابير المضادة المشار إليها. وكانت المكسيك وهي دولة مصدرة للنفط قد أصرت خلال التفاوض لصياغة تلك الاتفاقية في جولة الأوروغواي على أن الفرق بين سعر التصدير والسعر المحلي بالنسبة للموارد الطبيعية لا يشكل ازدواجا في التسعير وإعانة مخالفة لمبدأ المعاملة الوطنية لأن هذه الأخيرة تعني المعاملة المتساوية بين المنتج الأجنبي والمحلي داخل حدود الدولة ولا تعني مساواة معاملة المنتج المحلي الذي يجب أن يستفيد من الميزة النسبية التي تتمتع بها دولته مع المستورد من خارج حدود الدولة، الذي يستفيد بدوره من المزايا النسبية الأخرى المتوافرة في دولته. وجاء نص المادتين الثانية والرابعة عشرة في الاتفاقية منسجماً مع وجهة نظر المكسيك التي كانت تهدف في الأساس إلى التأكيد على أحقية الدول التي تتمتع بميزة نسبية في إنتاج مادة معينة كالنفط مثلاً في استخدام تلك الميزة. أما الجانب الآخر من أسعار منتجات الطاقة المحلية الذي يشار بأن له انعكاسات تجارية فهو الضرائب المحلية على استهلاك المنتجات في الدول المستهلكة. فالمعروف أن الكثير من دول العالم تفرض ضرائب على استهلاك البنزين والديزل بشكل رئيسي إما لزيادة إيرادات الموازنة العامة أو لتخفيف الازدحام والضوضاء في المدن. وتصل تلك الضرائب في بعض الدول إلى أربعة أضعاف سعر الزيت الخام واردا إليها وتؤثر في نمو الطلب وبالتالي في التجارة. فعلى سبيل المثال وصل سعر برميل المنتجات المباع في الاتحاد الأوروبي عام 1997 إلى نحو 101 دولار فيما كان سعر الخام 19 دولاراً والضريبة 63 دولاراً للبرميل. ووصل السعر في فرنسا إلى 109 دولارات نصيب الضريبة منها 74 دولاراً للبرميل. وجادلت الدول المصدرة بأن تلك الضرائب تمييزية ضد النفط لأن المصادر الأخرى مثل الفحم غير خاضعة للضرائب وفي بعض الأحيان تتلقى رعانات في تلك الدول. وترى الدول المستهلكة في المقابل أن تلك الضرائب محلية وذات صفة مالية وهي غير تمييزية لأنها تفرض على النفط المحلي والمستورد. وخلاصة الأمر أنه خلافا للاعتقاد السائد بأن النفط خارج إطار منظمة التجارة العالمية وأنظمتها، فإن أموراً عدة مرتبطة بالنفط تقع ضمن أختصاص المنظمة، إذ أن عدم التعرض له تفصيلاً في الجولات التجارية المختلفة كان بسبب التفاهم الضمني بين الدول الصناعية في الأعوام الأولى ل "الغات" ولأن الطبيعة الاستراتيجية وظروف السوق ومصالح الدول المنتجة والمصدرة وكذلك الدول المستوردة كانت تلتقي خلال العقدين الماضيين على عدم التعرض له. فالدول المصدرة كانت راضية عن دورها في التأثير في السوق من خلال تحديد الأسعار في السبعينات والمحافظة عليها من خلال الحصص في العقدين التاليين. والدول المستهلكة كانت تمارس تأثيرها من خلال سياسات الطاقة أو السياسات الضريبية والمالية. ولكن تغير واقع السوق وعلاقات أطرافه المختلفة وتزايد دور منظمة التجارة الدولية ودخول عدد كبير من الدول المصدرة فيها قد يوجد الآليات لمناقشة جوانب من النظام التجاري النفطي في إطار المنظمة وجولات المفاوضات المقبلة. * كاتب اقتصادي سعودي.