من حسن طالع مجلس التعاون الخليجي أن تنعقد أهم قمة له في أجواء هادئة بعد انحسار الأزمة الخطيرة بين الأممالمتحدةوالعراق و"تجميد" الضربة العسكرية الأميركية نتيجة تراجع النظام العراقي عن مواقفه وقبوله التعاون مع المفتشين الدوليين، علماً أن هذه الضربة أو الضربات لا تزال محتملة في أي وقت. فلو تزامن موعد انعقاد القمة الخليجية التاسعة عشرة مع الغيوم السوداء التي خلفتها الضربة - لو لم يتم تجميدها - لسيطر الهم والغم على أجواء القمة ولانحصر البحث في كيفية مواجهة المضاعفات والإنعكاسات السياسية والمالية والأمنية على دول الخليج وتركت معظم الملفات الحيوية التي تهم مجلس التعاون معلقة، وبينها ملفات اقتصادية تتطلب اجراءات عاجلة واتفاقات واضحة وملزمة. مع انحسار مخاطر الأزمة الإقليمية موقتاً يلتفت قادة دول مجلس التعاون الى معالجة بنود جدول الأعمال الحافل وتعزيز المسيرة لتلبية متطلبات المرحلة الحرجة والاستجابة لرغبات وآمال شعوب المنطقة وتدعيم أسس هذا الكيان الذي يفترض أنه بلغ "سن الرشد" ليكون دعامة للعرب ورافداً من روافد صمودهم وتضامنهم ومقومات مواجهتهم للمتغيرات الدولية الكبرى ووقوفهم في وجه المؤامرات الصهيونية والتعنت الإسرائيلي ومخططات بنيامين نتانياهو وحكومة الليكود المتطرفة لضرب مسيرة السلام والهيمنة على مقدرات العرب ومياههم وأراضيهم ونهب ثرواتهم. والأهم من كل ذلك أن القمة الخليجية التاسعة عشرة هي الأخيرة في حسابات القرن العشرين، لأن ما ستتخذه من قرارات وإجراءات يفترض أن يرى النور في عام 9991، وبالتالي ستكون لها علاقة مباشرة بتحديات القرن الحادي والعشرين والخطط والاستراتيجيات المطلوب وضعها للتعامل مع متغيرات القرن المقبل اقليمياً وعربياً ودولياً. ومن هنا يمكن استيعاب حجم وأهمية هذه القمة والآمال المعلقة عليها وهذا ما يدركه قادة دول مجلس التعاون، وما عبروا عنه في مناسبات عديدة رصدت منها قاسماً مشتركاً وعنواناً موحداً وهو أنها ستكون "قمة الآمال والطموحات". وهذا ينطبق على القادة والشعوب في آن واحد كما قال الأمير سعود الفيصل وزير الخارجية حيث ينتظر الجميع مزيداً من التلاحم والتعاون في جميع القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية لأن "نهج دول المجلس يقوم على تعزيز العمل العربي والإسلامي ودور القمة المقبلة يكمن في وضع لبنات جديدة في التعاون بين الدول الأعضاء خصوصاً وأنها تعقد تحت قيادة الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة الذي يثق الجميع بقدرته وحنكته السياسية حتى تحقق طموحات دول المجلس. والسؤال المطروح في كل مكان هو هل يستطيع مجلس التعاون الخليجي تحقيق الطموحات بمعزل عن محيطه وأمته و...العالم؟ وهل يمكن القمة الخليجية التاسعة عشرة أن تجترح المعجزات في ظل الظروف والتطورات السلبية التي تحيط بالمنطقة؟ وماذا عن انعكاسات الوضع المتأزم في العراق والعلاقات مع إيران ومسيرة السلام في الشرق الأوسط والمتغيرات العالمية وصراعات المصالح والنفوذ ولا سيما بالنسبة الى الولاياتالمتحدة والأوضاع الاقتصادية في ظل تدهور أسعار النفط؟ بالنسبة الى العراق بات واضحاً وجلياً للقاصي والداني أن دول مجلس التعاون الخليجي مجتمعة ومتفقة تتبنى موقفاً موحداً يقوم على ثوابت لم تتغير وهي: - الرغبة الأكيدة بوجوب نزع فتيل الأزمات ومنع تكرارها، خاصة وأنها لم يكن لها يد في هذا الفخ الذي أوقع فيه النظام العراقي للعرب وللخليج ولشعبه أولاً عندما قام بغزو الكويت عام 1990 وأوصلها الى هذه الحال واستنزف ثروات المنطقة ورهن مستقبلها ومستقبل العراق لعشرات السنين. - رفض الضربة العسكرية وأية ضربة أخرى تعاطفاً مع الشعب العراقي الذي دفع، وما زال يدفع ثمن خطايا نظامه والعمل على تخفيف معاناته وآلامه. - ضرورة التزام العراق باستكمال تنفيذ قرارات الشرعية الدولية واستمرار التعاون الكامل مع الأممالمتحدة ولجان التفتيش لإنهاء أعمالها بأسرع وقت ممكن حتى يتم رفع الحصار وانهاء العقوبات وبالتالي رفع المعاناة عن الشعب العراقي وعودة العراق للحظيرة العربية والدولية. وهذا الموقف تبنته أيضاً دول إعلان دمشق في الاجتماع الوزاري الأخير الذي حمّل النظام العراقي مسؤولية تداعيات الأزمة حيث عبّر وزير خارجية الإمارات السيد راشد عبدالله النعيمي عنه بقوله: "ان على القيادة العراقية أن تتحمل مسؤولية قراراتها ولدينا أمل بأن تتفهم الوضع والمخاطر الموجودة اليوم، خصوصاً وأن هناك شيئاً من الاستعدادات الآن للنظر في متطلبات العراق مشدداً على تنفيذ قرارات مجلس الأمن بأسلوب الممكن الذي لا يعرّض الشعب العراقي للأخطار والتدمير". وهناك الآن أمل كبير بأن تكون القيادة العراقية قد استوعبت الدرس الأخير لأن أي سوء تقدير للموقف بعد منحها "الفرصة الأخيرة" سيعني "الخراب بعد فوات الأوان"، وبالتالي تعريض العراق والمنطقة لأخطار لا حدود لها لأن الحديث تجدد أخيراً عن حتمية وقوع أزمة جديدة وبالتالي تنفيذ قرار الضربة المجمدة خلال أسابيع والتي ستكون موجعة وذات أبعاد خطيرة، فما تم انجازه خلال الأزمة الأخيرة هو نزع فتيل الانفجار وليس رفع برميل البارود، و"تجميد" الضربة العسكرية الأميركية المدمرة وليس صرف النظر عنها مما يعني أن الخوف ما زال مسيطراً من تكرار لعبة "القط والفار" التي لجأ اليها النظام العراقي من قبل عدة مرات وكان يتراجع فيها كل مرة ويقدم التنازل تلو التنازل مدعياً النصر ومتشبهاً بالقط الذي كان يظن أنه يلحس المبرد بينما هو يلحس دمه النازف. فما من أحد لا في الخليج ولا في المنطقة ولا في العالم يستطيع أن يتحمل تكرار مثل هذه اللعبة ولا أن يدفع ثمنها الى ما لا نهاية. ودول الخليج غير قادرة على تحمل مثل هذه الأخطار والجلوس على حافة بركان تنفجر حممه مرة كل 3 أو 4 أشهر، ولهذا توفر الإجماع على أن هذه الأزمة يجب أن تكون الأخيرة وبعدها لا بد من حسم الأمور نهائياً بأي شكل من الأشكال. أما بالنسبة للعلاقات مع إيران فإن الصورة أكثر وضوحاً وإيجابية" فما تحقق حتى الآن من انفراجات ولقاءات وإجراءات تبشر بالخير بمستقبل أفضل وبتفاهم على خطوات المستقبل بعيداً عن التهديد والوعيد والتدخل في الشؤون الداخلية. وعلى رغم الحذر والشكوك المثارة حول قدرة الرئيس محمد خاتمي على النجاح في تحقيق طموحاته بإنهاء مرحلة الصراع والتصادم مع العرب والانتقال الى مرحلة الحوار والتصافي والتصالح فإن ما جرى حتى الآن أسهم في بناء دعائم الثقة بين العرب والإيرانيين وبين إيران ودول الخليج. وبالذات السعودية وبالتالي "تأسيس" بداية لاستراتيجية جديدة تسهم في بناء الأمن والاستقرار في المنطقة وتبديد المخاوف من مواجهات مدمرة يدفع ثمنها جميع الأطراف بلا استثناء. ولكن أي نجاح لمثل هذه الاستراتيجية لا يمكن أن يبصر النور إلا بعد أن تمتثل إيران لإرادة الشرعية الدولية وتعيد الحق الى نصابه بإيجاد حل عادل وقانوني لمسألة احتلالها للجزر الإماراتية: طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبو موسى. فدول الخليج قامت بمبادرات بناءة لإنهاء هذه القضية ودولة الإمارات فتحت باب الحوار على مصراعيه ولم تسع أبداً لتوتير الأجواء أو التصعيد وهذا ما أكده الوزير الإماراتي النعيمي عندما قال "ان الإمارات لم تقفل الباب، وهناك آمال وآفاق لكن هذا يتوقف على القيادة الإيرانية بأن تتجاوب"، ولكن ايران لم تتجاوب حتى الآن مع طلب الإمارات في المفاوضات والتحكيم وحل هذا النزاع وفق مبادىء وقواعد القانون الدولي ومن خلال القبول بالتفاوض أو بإحالته الى محكمة العدل الدولية. ويبدو أن هناك جهات في ايران راغبة بالتصعيد ونسف جهود التقارب العربي - الإيراني بافتعال مشاكل أو بمحاولة تكريس احتلال الجزر الإماراتية بإنشاء قواعد عسكرية ومنشآت مدنية فيها في محاولة منها لتغيير طابعها الديموغرافي والقانوني والتاريخي. أما بالنسبة الى المجال الأرحب وهو المحيط العربي والإقليمي فقد تنفست دول الخليج الصعداء وأعربت عن ارتياحها لنزع فتيل الأزمة بين تركيا وسورية وتوقيع مذكرة تفاهم مشترك بينهما أبعدت شبح الحرب نتيجة للموقف العقلاني السوري والتجاوب مع وساطة الرئيس المصري حسني مبارك. تبقى أزمة الشرق الأوسط والقضية الفلسطينية، وموقف المجلس واضح في هذا المجال، ولهذا يتوقع أن تؤكد القمة الخليجية على الثوابت المعروفة وهي دعم مسيرة السلام على أساس مرجعية مدريد وفي إطار الشرعية الدولية وقراراتها ومبدأ الأرض في مقابل السلام ورفض أي تطبيع أو تنازل قبل إكمال عملية السلام وتنفيذ المبادرة الأميركية لتشمل جميع المسارات ولا سيما المسارين السوري والفلسطيني. وبعيداً عن "المؤثرات الخارجية" وتأثيرات المحيط الإقليمي والعربي والدولي ستجد القمة الخليجية نفسها منشغلة بهموم كثيرة تتعلق بالتعاون وإكمال ما تم البناء عليه منذ عام 1981 في ظل ظروف اقتصادية صعبة واستمرار انهيار أسعار النفط الذي يتوقع الخبراء أن يستمر لعام أو حتى عامين مقبلين. وجدول أعمال القمة "حافل بالقضايا الخليجية الاقتصادية والاجتماعية إضافة الى السعي لترسيخ الأمن والاستقرار في المنطقة وإشاعة الطمأنينة بين أبنائه وجذب الاستثمارات الى مشاريع التنمية وإيجاد حلول للمشاكل الراهنة وبينها مشكلة البطالة وإيجاد فرص عمل لعشرات الآلاف من الشباب وخريجي الجامعات كل عام. يضاف الى ذلك إكمال أو تكريس ما تحقق من خطوات مثل وضع آليات التعاون الاقتصادي والتجاري والثقافي والأمني ومنها السماح لمواطني دول مجلس التعاون بحرية المرور وسهولة عملية انتقالهم بين دول المجلس والقرارات التي تنمي الاقتصاد الوطني وتسهيل حركة انسياب سلع التبادل التجاري وانتقال رؤوس الأموال وتسمح بمزاولة المهن والاستثمار بين الدول الأعضاء في المجلس وإنشاء الاتحاد الجمركي الخليجي. وأهمية التركيز على القضايا الاقتصادية له ما يبرره في ضوء انهيار أسعار النفط وتأثيره على اقتصاديات دول الخليج ومشاريع التنمية فعلى رغم توقع الخبراء تسجيل نمو يصل الى 4،2 مقابل 5،4 في المئة العام الماضي فإنهم يعبرون عن مخاوف من أن يؤدي انخفاض أسعار النفط الى تراجع واردات دول مجلس التعاون أكثر من 30 في المئة أي ما يتراوح بين 50 و60 بليون دولار. وفي هذه الأرقام تكمن أبعاد المعضلة المرتقبة وجوهر "المسألة" التي ستكون محور اهتمام الجميع طوال العام المقبل. وهنا أيضاً تكمن أهمية القمة الخليجية المرتقبة التي تتجه اليها أنظار الجميع ليس في الخليج فحسب بل في الوطن العربي كله. لأن ما تشكو منه دول الخليج له تداعيات وانعكاسات عربية، وما تنعم به ينعكس إيجاباً على الاقتصاد العربي ككل وبالتالي على الأمن والاستقرار في المنطقة. ولهذا وصفت القمة الخليجية بأنها قمة "الآمال والطموحات" ليس بسبب القرارات الصعبة التي ينتظر أن تصدر عنها فحسب بل للثقة بأن حكمة قادة الخليج ورئيس القمة الشيخ زايد ستسهم في وضع الحلول وإشاعة أجواء التفاؤل خليجياً وعربياً بأن مسيرة الانتقال نحو الأفضل قد بدأت في سبيل النهوض من الكبوة والتعثر والانطلاق نحو تضامن عربي حقيقي وحلول عقلانية للمشاكل والأزمات والخلافات، وبينها خلافات الحدود وغيرها استعداداً لرحلة السفر من قرن الى قرن ومواجهة تحديات القرن الحادي والعشرين! * كاتب وصحافي عربي.