سحابة من الحزن تظلل رؤوس مشاهدي شريط "صعود المطر" للمخرج عبداللطيف عبدالحميد، صاحب "ليالي إبن آوى" و"رسائل شفوية" الذي انتهى قبل ايام من تحقيق فيلمه الرابع، فيما يعد رقماً قياسياً بالنسبة الى ابناء جيله. محمد ملص فيلما، واسامة محمد فيلم واحد، وهو في انجازه الروائي الثالث "صعود المطر" يأخذ فرصته كاملة لتحقيق فيلم تجريبي فيه الكثير من المغامرة الفنية، التي اثارت ولا تزال نقاشات واسعة في صفوف السينمائيين والنقاد منذ عرض في مهرجان دمشق السينمائي، وكذلك مهرجان القاهرة واستحق الاعجاب والنقاش على حد سواء. "صعود المطر"، قراءة شاعرية في يوميات كاتب روائي، يعيش في ايامنا الراهنة احزان العزلة وعدم الرغبة ولا القدرة على التكيف مع محيط اجتماعي يلهب في جحيم الاستهلاك. قراءة يقدمها عبداللطيف عبدالحميد في مستويين: واقعي نتابع خلاله الكاتب - البطل وما يمرّ به من تفصيلات تغني العنوان العام لحياته، ومستوى آخر فانتازي يقدم خلاله المخرج رؤى يختلط فيها المنطق بالهذيان في بنائية سحرية تتبادل مع المستوى الواقعي الادوار، فلا نفقد خط الاتصال مع حكاية الفيلم، ولا يصيبنا دوار المتابعة، بل اننا ننتقل مع المخرج وممثليه بين الواقعية والفانتازيا في متعة هي الابرز في ما يقدمه هذا الفيلم. هل الواقع هو الفانتازيا، ام ان العكس هو الصحيح؟ سؤال نجده في بالنا، وان كنّا ننصرف عنه الى ما هو اهم: صورة العبث الذي يعصف بحياتنا ويحوّلها الى لهاث متصل، ويعبّر عنها المخرج في ذرة درامية كبرى هي مشهد قصف المدينة بالبطيخ خلال الشتاء، وهو المشهد الذي يصعّد من خلاله عبداللطيف عبدالحميد فانتازيا العبث والضياع، يقابله في المستوى الواقعي مشهد الحبيبين اللذين يمارسان رقصة حب طويلة على سطح البيت.. رقصة تمنح الكاتب الحزين دفقة امل تدفعه للتصفيق جذلاً، وللرقص على طريقته كأنه يقول لنا، ان في الحياة على رغم ذلك ما يستحق العيش. حكاية فيلم "صعود المطر" تتابع امامنا على الشاشة في مشاهد يقطعها باستمرار الانتقال السريع الى اجواء اخرى، وكأن الفيلم يرغب في مقاربة اجواء القلق والتوتر الاجتماعي كي يضعنا فيها. ثمة مشاهد في الفيلم ترتفع الى مستوى فني رفيع يمنحها جمالية اعلى، جو المطر الذي ينهمر بلا توقف خلال احداث الفيلم، والذي نراه يسيل من زجاج نافذة غرفة البطل، فيما يبلل الحبيبين الشابين في رقصة حبهما التعبيرية. اعتقد ان تجربة "صعود المطر"، بمعنى ما، تجربة الاعتماد على الامكانات الفردية للممثلين، خصوصاً تيسير ادريس الذي ابدع في دور البطولة ولفت الانتباه بتمثيله الحميم فاستحق جائزة اولى من مهرجان دمشق السينمائي، كما يمكن الاشارة هنا ايضاً، الى حضور عدنان بركات وناجي جبر وبسام كوسا، هؤلاء الذين لم يجدوا غضاضة في الظهور في ادوار سريعة، خاطفة، هي أقرب الى الكومبارس، وكذلك الاشارة الى موسيقى علي الكفري التي رافقت الفيلم وشكلت جزءاً اساساً من بنيته الدرامية، فاستحقت هي الاخرى جائزة اولى من مهرجان دمشق السينمائي، وكانت مثار اهتمام المشاهدين والسينمائيين والنقاد. تطرح تجربة عبداللطيف عبدالحميد في "صعود المطر"، من جديد قضية الشكل الفني في معالجة الهموم والمشاكل الواقعية، حيث يمكن للأساليب الشاعرية وحتى الفانتازية مقاربة هذه الهموم والمشاكل والتعبير عنها، شرط التزام الصدق والوضوح. يلفت الانتباه في افلام عبداللطيف عبدالحميد اهتمامه بمسألة الفواكه، ففي فيلميه الاول والثاني رأيناه يهدر البندورة الطماطم والبرتقال فيما هو هنا يتعمد ان يقصف المدينة بالبطيخ. هل هو مجرد رمز فني؟ أم انها اشارة الى ارتباط ما بالريف؟ سينما عبداللطيف عبدالحميد في الاجمال سينما المشاعر البسيطة لناس بسطاء، يقدمهم المخرج من دون تكلف، كما هم، تعصف بهم تكاليف الحياة، ولكنهم يواصلون العيش بثقة واقتدار.