في الثاني والعشرين من كانون الثاني يناير 1940 توفي في بغداد وزير المالية في حكومة نوري السعيد الرابعة محمد رستم حيدر. ليس نتيجة مرض، بل لأن مفوضاً سابقاً في الشرطة يدعى حسين فوزي كان قبل ذلك بأربعة ايام هاجمه في مكتبه بوزارة المالية واعتدى عليه مسبباً له جروحاً هي التي قضت عليه. اما لماذا كان الاعتداء من مفوض الشرطة؟ فسؤال لم يجب عنه احد بشكل قاطع، وإن كان من بين الاحتمالات ما يورده المؤرخ العراقي مير بصري نقلاً عن "احد رجال السياسة من الشباب المثقف الذي عاصر تلك الاحداث وكان موظفاً كبيراً ونائبا" من ان هذا السياسي قال له: "اعتقد ان مقتل رستم حيدر كان بتحريض من الحاج محمد أمين الحسيني والعقداء الأربعة محمد فهمي سعيد ورفاقه، الذين كانوا في ذلك الحين يرومون السيطرة على سياسة العراق وتوجيهها حسب اهوائهم حيث ان رستم حيدر كان عاملاً كبيراً في توطيد سياسة الاستقرار ومصانعة البريطانيين في ظروف الحرب العصيبة اعتقاداً منه ان مصلحة البلاد تقتضي ذلك. وكان لرستم تأثير شديد على طه الهاشمي وزير الدفاع ولعل المفتي والعقداء ارتأوا انه ما دام رستم يؤثر في طه الهاشمي فلا يمكن السير في الخطة التي انتهجوها، فدفعوا مفوض الشرطة المفصول الى اغتيال رستم ... للتخص منه. غير ان مير بصري يستدرك قائلاً: "ذلك رأي لا يمكن اثباته ولا نفيه". مهما يكن في الأمر فإن محمد رستم حيدر الذي كانت نهايته على ذلك النحو، لم يكن رجل سياسة عادياً، بل واحداً من الرعيل العربي الأول، وذلك منذ تفتح وعيه باكراً في مدينة بعلبك اللبنانيةمسقط رأسه في العام 1889. في صباه الباكر تعلم حيدر في دمشق ثم انتقل الى الاستانة. وهناك في عاصمة السلطنة اسس مع عوني عبدالهادي وأحمد قدري واحدة من اولى وأهم الجمعيات العربية السرية: "جمعية العربية الفتاة"، قبل ان يتوجه الى باريس للدراسة في جامعة "السوربون" حيث تخرج في العام 1912 بعد ان وضع كتاباً بالفرنسية عن "حركة محمد علي الكبير محيي مصر وباعث حياتها الاستقلالية العربية". لدى عودته من فرنسا تولى حيدر التدريس في دمشق، ثم في القدس، في "المدرسة الصلاحية" التي اسسها جمال باشا، وعن بادارتها الى عبدالقادر المغربي وعبدالعزيز الجاويش. في تلك المدرسة درّس حيدر الاقتصاد عبر محاضرات ودروس جمعها بعد ذلك في كتب حملت عناوين مثل "التاريخ القديم" و"تاريخ الاسلام والقرون الوسطى"، وو"فجر التاريخ الحديث" وهي لم تطبع - كما يفيدنا خير الدين الزركلي في كتاب "الاعلام". في العام 1917، بعد ان اعلن الشريف حسين الثورة العربية الكبرى، خرج رستم مع آخرين متخفياً ليلتحق بالأمير فيصل بن الحسين في ثورته. وهو عاد ودخل القدس مع الفاتحين الانكليز والعرب، وأصبح سكرتيراً خاصاً لفيصل رافقه في زحفه وانتصاراته ثم في دمشق، حيث عينه فيصل مساعداً لشكري باشا الايوبي الذي اختير حاكماً عسكرياً للبنان. ولدى انتهاء الحكم الفيصلي ودخول الفرنسيين لبنان وسورية، عاود حيدر الالتحاق بفيصل ورافقه، كرئيس لديوانه في تنقله وصولاً الى الحجار، ثم حين دخول فيصل العراق ملكاً عليه. وفي صيف العام 1921 عيّن رستم حيدر رئيساً للديوان الملكي، وهو منصب ظل يشغله تسع سنوات. وفي العام 1929 اصبح وزيراً مفوضاً في ايران. وبعد عام عين وزيراً للمالية العراقية في حكومة نوري السعيد كما اصبح عضواً في مجلس الاعيان. ومنذ ذلك الحين صار يتقلب في المناصب الوزارية، حتى كان انقلاب بكر صدفي في اواخر العام 1936، فاستقال من مناصبه وعاد الى بعلبك. لكن اقامته في مسقط رأسه لم تطل، بل انه عاد الى بغداد في السنة التالية، حيث انتخب نائباً عن منطقة الديوانية ثم اصبح رئيساً للجنة المالية في مجلس النواب. وحين شكل نوري السعيد حكومته الثالثة في خريف العام 1938، تقلد رستم حيدر منصب وزير المالية، وهو نفس المنصب الذي تقلده في الحكومة التالية التي عاد السعيد وشكلها. وظل حيدر يشغل ذلك المنصب حتى رحيله مغدوراً. بقي ان نذكر ان امين الريحاني في كتابه "ملوك العرب" وصف رستم حيدر بأنه "شاب عصري وضاح المحيا" ثم روى كيف انه - أي الريحاني - كان مرة في حضرة فيصل الأول فسأله عن رأيه في التطور والثورة فقال الريحاني بأنه ممن يعتقدون بالنشوء والارتقاء في الطبيعة وفي الاجتماع، وان التطور معراج الانقلاب الحقيقي المفيد الثابت، وان الطفرة محال، وان للثورات دائماً رد فعل يعود بالناس الى ما كانوا عليه... لكن رستم عارضه - كما جاء في ما نقله مير بصري عن الريحاني - وشرح يتكلم بالثورات والانقلابات في السياسة وفي الدين "كأنه دانتون او كأنه لوتير" حسب تعبير الريحاني وقال: "النشوء بطيء، التطور ضرب من البلادة، والأمة التي تنتظر وتتوكل عليه تفقد، مثل الأمة الانكليزية، كثيراً من مزايا النفس الجميلة التي تظهر في الفنون والاجتماعيات". فقال احد الحاضرين: ان رستم بلشفي في آرائه. فقال حسين افنان: والحمد لله انه كذلك في آرائه فقط.