هل أخطأ الرئيس العراقي عندما تحدث عن "نصره المؤزر" في الجولة الأخيرة من حروبه المستمرة؟ وهل كانت ثقته بنفسه مزعزعة، حين دعا الشارع العربي إلى الثورة على حكامه من أجل "زعيم محبوب" مثله؟ كتب الكثير من محللي الأخبار والصحافيين في الأيام الأخيرة عن العدوانية التي اكتنفت تصرفات هذا الرئيس ووزيره الأول وطاقمه في ما كتبوه وصرحوا به، وقال بعضهم إن هذه التصرفات هي محض أفعال الخاسر الذي لا يعرف كيف يدير شأنه. وربما تأخذنا الظنون مأخذاً، ونتخيل ان الضربات الموجعة التي تلقاها حراسه واستخباراته أفقدته صوابه وجعلته يشعر بأنه قاب قوسين من مصيره. لكن المؤكد ان صدام حسين صاحب الإرادة الفولاذية التي قل نظيرها بين ارادات الزعماء، كان وما زال في سياقه منذ أن عرفه العراقيون لأول مرة قاتلاً في حلة بطل، ومنذ أن تعرف عليه العرب بطلاً في حلة قاتل، وهو اللقب الذي أضفى عليه "شرفاً ما بعده شرف". ولو اطلق العنان اليوم لمشاعر الجماهير العربية دون رقابة لرفعت صوره في كل التظاهرات التي تحركت لنصرته. ولعل من باب تزييف الحقائق القول بأن التظاهرات التي خرجت في البلدان العربية تؤيد الشعب العراقي وتستنكر العدوان الأميركي - البريطاني لأنه موجه إلى هذا الشعب، بل المؤكد ان تلك التظاهرات خرجت مؤيدة لشخص هذا الزعيم الذي مثل ويمثل النموذج الذي حلمت وتحلم به تلك الجماهير منذ أن تهجت الأحرف الأولى في السياسة. والدليل ان الفعاليات التي نظمت بعد العدوان الأخير ومن أجل ازالة الحصار، لم ترفع شعاراً واحداً يطالب بإزالة صدام حسين أو تحميله بعض مسؤولية عن ما آلت إليه الأوضاع في العراق. ولو كان في حسبان تلك الجماهير مصلحة الشعب العراقي لخرجت منذ سنوات طويلة مطالبة ولو بازالة بعض المصائب والمظالم التي يرزح تحتها هذا الشعب بسبب وجود هذا الرجل على رأس السلطة في العراق. لم تحرك تلك الجماهير أفواج العراقيين من النساء والأطفال والشيوخ الذين أجلاهم صدام حسين عن بيوتهم وقراهم ووجه إليهم البنادق ليعبروا حقول الألغام في إيران في ليالي الشتاء المثلجة. وكانت الأوامر الموجهة إلى الجيش اضربوهم من الخلف، تلك الأوامر التي رفض طاعتها الكثير من من الضباط والجنود العراقيين، ودفع خيرة ضباط العراق حياتهم ثمناً لمواقف إنسانية منعتهم من تنفيذ أوامر هذا "البطل" الذي خلق ليمثل "الارادة العربية". ولم تخرج تلك الجماهير وهي تشهد وتسمع بحفلات الاعدام الجماعية التي يقيمها صدام حسين علناً في شوارع بغداد والمدن العراقية، في وقت كان يشتغل في العراق آلاف العمال والموظفين من مختلف البلدان العربية. وتستضيف المرابد الأدبية على موائدها الشعراء العرب في وقت يطرد العراق الرسمي أكثر من نصف كتّابه مشردين في أنحاء المعمورة، ويعز على الكاتب العراقي في الداخل الحصول على كوبون الشاي والقهوة في تلك المهرجانات، إلا إذا قدم طقوس التذلل والطاعة، في حين تسلم المغلفات السمينة وبالدينار العراقي أيام عزه، ليس فقط إلى المشاهير من الكتّاب العرب، بل إلى شاعرات صغيرات السن من تونس والمغرب لم يتعرف عليهن بعد جمهور بلدهن. لعل من باب أولى بعد أن مررنا بكل تلك المفازات السياسية، أن نحاول التخلي عن تلك السمة التي امتاز بها الوعي السياسي العربي، ذلك الوعي الذي يجعل من محللي الأخبار والكتّاب قادرين على تخيل الأمور وفق هواهم. ونقر بحقائق ساطعة لكي نواجهها أو نعتبرها من تحصيل حاصل عالمنا العربي الذي لنا أن نتعايش معه أو نرفضه. حتى لا نحسب مجازر الجزائر ببساطة متناهية مؤامرة امبريالية، ولا جرائم الشارع السياسي العربي محض نضال يخاض لوجه الله والوطن. ومن بين اسطع تلك الحقائق ان صدام حسين مثل ويمثل النموذج الذي تحلم به معظم الجماهير بطيف واسع من قادة الرأي الذين صنعوا وعيها وصاغوا قناعاتها من المحيط إلى الخليج. أو هو في أحسن الأحوال نتاج تلك الثقافة الشعبوية التي زرعتها في وجدان الناس وسائل الاعلام الرسمية والنشرات والصحف والمجلات السرية والعلنية، وخطب الزعماء والقواد سواء كانوا في السلطة أم خارجها، فإن اردت ان تتبع صدقية هذا الحديث، فلا تحتاج سوى أن تتذكر ان الناس في المغرب العربي، على سبيل المثال، كانت تحفظ بجماع وجدانها اسماء الضباط والمراتب المتقدمة في الجيش العراقي الذين خاضوا حرب إيران، وتتبارك بهم، وهي البعيدة التي لم تكن تعرف في السابق أين يقع العراق أو إيران في اطلس العالم. كما ان صور صدام حسين كانت تعلق بإرادة رسمية أو من دونها على جدران الديوانيات والدوائر الرسمية الكويتية، لكن هذا الرجل عندما احتل الكويت رفعت صوره عن تلك الجدران، لتحتل من أجل فعلته هذه جدران قلوب العرب أجمعين، وكأن هذا الغرام المبرح انتقل بعدوى استيقاظ شهوة الغزو النائمة منذ حقب طويلة في وجداننا العربي. كشفت التقارير الكويتية اللاحقة بعد حرب الخليج الثانية ان نشاط السفارة العراقية في الكويت قبل الاحتلال لم يقتصر على تعزيز الاعجاب بشخص صدام حسين لدى المريدين والمسحورين ببطولاته، بل أن هذه السفارة دفعت الأموال لأصحاب الصحف التي كانت تتغنى بأمجاده ليل نهار. وان كان لنا أن نتخيل الحالة في بلد ثري مثل الكويت، فكيف الحال في البلدان العربية الفقيرة التي اشترت السفارة العراقية بعض أحزابها وقادة الرأي فيها. سنكون مبالغين دون شك لو نحسب ان النشاط الاستخباراتي العراقي والشيكات المفتوحة صنعا الرأي العام العربي المؤيد للعراق الرسمي وعلى وجه الخصوص في الفترات اللاحقة، وسننسى ورقة صدام حسين الرابحة التي استخدمها بعد دخوله الكويت وهي التي استخدمها في مواجهته لإيران. ففي حياة العربي الفقير المحاصر بالجهل والظلم عدو خارجي تعود أن تعطل سلطته من أجل مواجهته دعائياً، كل مشاريع التطوير والتنمية، بما فيها الحياة الدستورية والقوانين، وتصفي معارضيها بتهمة الخيانة العظمى، وينتخب الرئيس لما تبقى من عمره وعمر أبنائه في دورات متلاحقة لأنه يناضل ضد هذا العدو الخارجي. وبما اننا نعاني من مشكلة الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين منذ نهاية الأربعينات إلى اليوم، فإن هذه القضية تحتل مركز الصدارة في الانقلابات العسكرية التي ترصع بيانها الأول بوعد التحرير وتأكل شعوبها السياط من أجل أن يستكمل القادة مهمتهم الشريفة هذه إلى أبد الابدين. عرف الزعيم العراقي كيفية تأجيج الهوى المتأصل بالقادة والأبطال الخرافيين، فهو وحده، بعد أن غاب أبطال الخامس من حزيران يونيو من قادة الدول والأحزاب، يعرف كيف يخاطب هذه الجماهير، لأنه يعرف كيف يطعمها الأكاذيب، فالفرد العربي لم يتعلم روح المحاججة والاعتراض لأن الفرصة لم تتح له لكي يعيش داخل كيانات سياسية وحزبية ناضجة، وهو تعود داخل أحزابه على التفكير بعقلية وسلوك الحشود التي تجعله مستلب الارادة ازاء القائد الذي يحمي الجماعة. وهذا الزعيم بالضرورة ينبغي ان يكون مرآة للعقل الخرافي الذي اعتاد ان يعيش على شيزوفرينا الذات المنقسمة على نفسها بين مظهرها الخارجي وسلوكها الآخر السري الذي تمارسه في خلواتها. فصدام حسين أصبح أكثر سطوة وجاذبية حين احتل الكويت وخرج من معركته مع قوات التحالف منتصراً حتى ولو بإرادة الأميركيين، على رغم الخسائر والدمار الذي لحق بالعراقيين، لأن انتصاره أو بقاءه في السلطة، يمثل انتصاراً للبطولة الفردية التي لا تقيم أهمية لخسارات الشعوب. وبعد سحقه انتفاضة العراقيين كان العرب بقواهم الجماهيرية وقادتهم مع تلك الوحشية في تصفية الحساب مع الناس الذين ناصروا الانتفاضة، تلك التي كرهها العرب لأنها تستهدف زعيمهم المحبوب قبل كل شيء. فشخصية مثله يشعرهم باللحمة والهدف الجماعي، وكل واحد فيهم يستطيع ان يتقمصه بكل ما يملك من شغف ببطولة القبضاي وهو في الغالب كذوب دعي لكنه بطل حبه ومفخرة جماعته. والحال، يبدو صدام حسين كما لو أنه الصورة التي يقتدي بها من استعاض بالاحلام عن الواقع، لأن الاحساس بالزمن والمكان في عالمنا العربي وحتى بين النخب الثقافية يكاد يكون ملتبساً، والاحساس الواقعي بهما هو نتاج التطور العلمي والحضارة المدينية التي ما كان بمقدورنا ان نتساوق مع ايقاعها ونحن نضع انفسنا خارج سياق انتاج قيمها، ولا نملك سوى التوجس منها والخيفة من منجزاتها. في كل الفترات التي مرت بها الكيانات العربية منذ مطلع هذا القرن حتى وقتنا الحاضر، ما رغبت الجماهير عن زعيم مثل الزعيم الذي يدعو إلى احترام حقوقها. ومن يقرأ التاريخ العربي فلن يجد مصيراً انتظر دعاة الدساتير والقوانين إلا الاعدام والسجون. وفي الظن ان هذه الحالة، إن تفهّمَها العراقي المبتلي بظلم سلطته، لا تثير الشعور بالغضب أو الأحقاد لديه، إلا ضد من قبض الثمن مقابل التستر على عورات صدام حسين الفاضحة. ففي عالم بسيط وبدائي مثل عالمنا العربي كل القضايا تستحق التفهم، لأنم القيم والمفاهيم الروحية والمادية في كل الأحوال هي انعكاس واقع سوسيولوجي واستقطابات عالمية، وهذه الأخيرة جعلت من نصيب منطقتنا ان تقام دولة إسرائيل لتهمش كل الصراعات المحلية التي تستطيع ان تنضج عناصر التطور في مجتمعاتنا، وفي خضم المعركة غير المتكافئة بين أفضل عقول الغرب التي دعمت هذا الكيان وبين مجتمعاتنا الهشة، نشأت فكرة الشعور بالدونية والعجز ولن يكون التعويض عنهما سوى وجود البطل المخلص الذي يخوض معاركه بسيف الكلام، ولا يهم أن ربحها أو خسرها في الواقع، فقد تعودنا على أن نأكل الهواء طيباً في سمر الليالي الطويلة. * كاتبة عراقية مقيمة في لندن