تابع جمهور "مهرجان تونس" أنواعاً مختلفة من الفنون راوحت بين الطرب العربي الأصيل والمسرح والموسيقى التركية والإيرانية في سهرات استمرت نحو شهر اقيمت في قصور وبيوت قديمة في المدينة التاريخية، إضافة إلى قصر "المسرح البلدي" في القسم الأوروبي من العاصمة. ويشكل "مهرجان تونس" الذي يقام منذ سنوات وينتهي مع أواخر رمضان منافساً ل "مهرجان قرطاج" الذي يقام صيفاً في مدرجات المسرح الروماني في المدينة الفينقية التي تقع شمال العاصمة تونس. وطغى العود على سهرات مهرجان تونس هذه السنة. فمن العراقي نصير شما إلى الفنانة الكبيرة لور دكاش إلى التونسي لطفي بوشناق وصولاً إلى اللبناني نداء أبو مراد الذي ابدع في استخدام الكمان واخراج أصواتاً مختلفة منه لم يتعود عليها الجمهور. جاء نصير شما بمعزوفات جديدة لا يعرفها التونسيون الذين أمضى بينهم تسعة أعوام، إذ أعاد صوغ قطع شهيرة وأبدع قطعاً أخرى منح من خلالها العود وجوهاً غير مألوفة وفجرّ ما فيها من مخزون، إلا أن الجمهور أصرّ على سماع قديمه، خصوصاً "العامرية" التي ولّد منها أصواتاً متنافرة ومنسجمة في آن معاً على نحو حَوَّل العود إلى أوركسترا متكاملة. وأتت لور دكاش لتعيد التونسيين إلى أجواء الاربعينات والخمسينات وغنت في "المسرح البلدي" الذي غنت فيه في العام 1949، إلا أن تأثير السن المتقدم كان واضحاً ما حمل النقاد على القول إن أفضل تكريم للفنانة اللبنانية - المصرية الكبيرة ليس صعودها على خشبة المسرح مجدداً، وإنما حضورها حفلة تغني خلالها مطربات شابات أغانيها الشهيرة. وأتاحت سهرة الفرقة الإيرانية "برباد" للجمهور فتح نافذة على الموسيقى الفارسية للمرة الأولى. ويضم التخت ثلاثة عازفين ومغنياً واحداً وهم طوروا الموسيقى العتيقة التي أبدعها الفنان الفارسي "برباد" الذي يعتبر صنو "زرياب" عند العرب، إلا أنه وسّع مجال اقتباسه إلى ألوان أخرى من الموسيقى الإيرانية، خصوصاً الآتية من اصفهان. إلا أن رتابة الأنغام وتكرار لون موسيقي متشابه أديا إلى نوع من الضيق لدى الحضور المؤلف أساساً من شباب جاء ليكتشف الجديد. وكان التجاوب أكبر مع مجموعة اللبناني نداء أبو مراد الذي قاد الحضور إلى عوالم موسيقى تعتمد على نصوص الحلاج وفريد الدين العطار وسيرة رابعة العدوية. وأضفت أصوات محمد سعيد الشامي وسيلفي حداد وأصابع نداء أبو مراد وعلي وهبي مناخاً مهيباً على أجواء الموسيقى العتيقة المعجونة بالأشعار. ومن السفر إلى التاريخ الصوفي نقلت مجموعة أشرف شريف خان الباكستانية الجمهور التونسي إلى مناخات أخرى في السياق الروحي نفسه، إلا أنها آتية من تقاليد الموسيقى الباكستانية القديمة التي صالحها مع المقام العربي. وشكلت السهرة الباكستانية إحدى أنجح فصول "مهرجان تونس" التي أضاءت ليالي المدينة بأنوار روحانية آتية من عبق التاريخ.