الذي يُتَاِبع أزمة مَشروع العراق يجد أن المعلومات تتدفق من العواصم الأجنبية، وأن الحيرة والغموض يخرُجَان من العواصم العربية، هذا الوضع ليس لعدم اهتمام العرب بما يجري في العراق، وإنما لأن السياسيين العرب ما زالوا يعتقدون بأن الهموم السياسية من شأن خاصة الخاصة من الناس، ولا بد لها من السرية، وإذا صرّحوا زاد الأمر غموضاً. من هنا غابت وظيفة الناطق الرسمي في الحكومات العربية، واستمر الناس في التعامل مع الإشاعة كوسيلة لمعرفة ما يجري، وتعودت الحكومات على تقديم المعلومات للمواطنين عبر نفي الإشاعات، وليس طواعية، حتى الصحف العربية تقتات على الإشاعة إذا أغلقت أمامها الأبواب . قبل عشرين سنة قمت بتغطية أحد مؤتمرات القمة العربية. كانت الأخبار في تلك القمة أندر من الضب في القطب الشمالي، والخِلافَات على أشُدّها، و للخروج من الصمت والتصريحات الفضفاضة، اتبع الصحافيون العرب طريقة ترويج الإشاعات والاستفادة من نفيها لمعرفة بعض ما يجري في أروقة المؤتمر وغُرَفِه المُغْلَقة، فتحول المؤتمر إلى إشاعات ونفيها، فعرف الناس بعض النفي، أو بعض الحقيقة. أعجبتني طريقة الصحافيين في الاحتيال على السياسيين وإخراجهم من صمتهم مُرغَمِين، بهذا الأسلوب، فقلت لبعض الزملاء: هذه الطريقة في استخراج الأخبار ذكرتني بطريقة استخراج الضب، فحين يتمترس الضب في جُحرِه، يكون من الصعب إخراجه وصيده إلا بأسلوب يشبه لعبة الإشاعات في إخراج الأخبار، فكُنَّا نقوم بتوصيل عادم السيارة بجُحر الضب لبضع دقائق، فيخرج الضب مسطولاً من رائحة البنزين المُحْتَرِق، أو "ينفج" من جُحره كما نقول في لغة قنص الضب، مُرغَماً خوفاً من الاختناق فيقع في المصيدة. بعد هذا التشبيه أصبح القادم من الصحافيين إلى المركز الإعلامي للمؤتمر يسأل الجالسين: ما هي أخبار الضب يا جماعة؟ فإذا كانت الأخبار متوافرة قالوا: نبشرك الضب "نفج"، وإذا شحَّت الأخبار يردون: ما زال في الجُحر، ثم يبدأ مشوار نسج الإشاعات للحصول على الأخبار من مكاتب السياسيين المغلقة. حين عُدْتُ سألني رئيس التحرير عن المهارات التي اكتسبتها من هذه الرحلة الصحافية، قلت له: لم أتعلم شيئاً جديداً، لأني أعرف "تنفيج الضب" قبل أن أُسَافِر.