يتقدم اسم احمد التوفيق الى حقل العمل الروائي بشكل مثير للانتباه، سواء من زاوية التبرم من جموحه السردي الذي صاغ ثلاث روايات في غضون سنتين، او من منطلق التفاعل مع نصوصه وانتشارها وسط شرائح مختلفة من القراء وجدوا في ما يكتبه التوفيق النص الذي كانوا ينتظرونه منذ سنوات. اشتهر الرجل كمؤرخ - وهو من الباحثين الذين دعوا، دائماً، الى التسلح بأكثر من علم للاقتراب من وقائع التاريخ والكتابة عنها، كما عرف بوصفه محققاً دقيقاً، واستاذاً موجهاً نقل شغفه بالتاريخ الاجتماعي والثقافي الى عدد غير قليل من طلبته وقرائه. وها هو يقتحم الحقل الروائي بنصوص تظهر مؤشرات عدة ان المغرب تعزز رصيده الروائي بكاتب من طراز رفيع يجمع بين ثقافة واسعة، وذاكرة خصبة، وخيال متدفق، ولغة في منتهى الطراوة والحيوية. هنا حوار معه تناول تجربته: عرفت مؤرخاً ومحققاً مدققاً، وفجأة شغلت جمهور المثقفين برواية أولى "جارات أبي موسى" ما السبب الذي جعلك تنتقل من الكتابة التاريخية الى السرد الروائي؟ - لا أدعي انني املك الجواب الدقيق عن هذا السؤال، فنحن لا نعرف لماذا نفعل ما نفعله من هذا القبيل، ولكننا نلجأ الى المنطق والى الاحاسيس، ونستطيع ان نقنع الآخرين ونقنع انفسنا، بيد ان هنا مساحة يحتلها عدم اليقين عندما يتعلق الأمر بأفعال ذاتية من قبيل عتبات في حياتنا الكلية كطامحين وباحثين باستمرار عن متنفسات لأنواع الضيق التي تطاردنا. استطيع ان اقول لك ان ما سميته "الانتقال" من حقل الكتابة التاريخية الى حقل السرد الروائي، ليس انتقالاً ولا هجرة، لأن مشاغلي في البحث التاريخي مستمرة، لا بحكم الالتزامات المهنية فحسب، بل بدافع التعشق النابع من رغبة دفينة تبلورت في الاقتناع بأن هذا البحث يسهم في التنوير، اي في فهم الحاضر وفي المقاربة الثقافية للانسان. وما دمت سميت صياغة نتائج البحث التاريخي بپ"الكتابة" التاريخية فقد اقررت ان بين النمطين قاسماً مشتركاً اي "فن الكتابة". فالتاريخ علم بأساليبه في التعرف على انواع آثار الماضي، وبما نمّاه من مناهج استنطاق هذه الاثار، وتكون نتائجه، اذا مورس بدراية، نتائج مقنعة وربما مؤسسة. ولكن النجاح في قراءة انواع هذه الآثار او الوثائق يتطلب نوعاً من الخيال بالاضافة الى معرفة واسعة بتسريح مكونات النشاط الانساني في مختلف المجالات والعصور، سواء كان نشاطاً يدوياً او فكرياً. والخيال المطلوب هو في الحقيقة خيال مقيد بتلك المعرفة، ولكن تقييده لا يعني انه محصور منتهي العناصر، اي انه ليس قُنا أو ممارسة آلية، بل هو خلاق، والقضية تكمن في غنى النشاط الانساني وملابساته وتنوعه، ومن هنا استعصاء التاريخ على الخضوع لقواعد ثابتة الى درجة تتيح التنبؤ بالمستقبل. وفي هذا الخيال التاريخي المقيد تتدخل اللغة ومصطلح العصر، وبعض التعابير التي تحمل دينامية تطورية الخ... وبعبارة اخرى فالتاريخ ليس حكاية ولا شعراً ولكنه استنباط يلعب فيه السرد دوراً اساسياً. فكل نصوص التاريخ هي بحسب ميادينها روائية بدرجة ما لأنها مضطرة الى اختزال الواقع، اي اختيار اجزاء من الوقائع لأن التفاصيل تفوق الحصر، وهي ايضاً روائية لأنها تستهدف التأثير على الخيال او اثارته ليحب القارئ ويكره ويعجب ويتعجب. انتقال كاتب للتاريخ الى كاتب للرواية لا يلزمه بالخروج من الزمن، ولا يعفيه من قيود الخيال الآخر الذي هو خيال العمل الروائي ما دام بناء هو ايضاً، ولكنه بناء وثائقه غير مرتبطة بواقعة معينة، ووقائع الرواية كلها غير قابلة لمقتضيات النقد التاريخي وليس من الضروري ان يتفق اثنان على منطق العلاقات وعلى منطق المصائر التي ترد في رواية معينة. فالأمر يتعلق بتجاوز ما وقع جملة في زمن معين وناس معينين الى ما يمكن ان يكون قد وقع او ما يحتمل ان يقع في كل وقت في حياة ناس يبدعهم الروائي ويصنع مصيرهم انطلاقاً من تجربته وخياله وتجارب اخرى قد تكون في اصلها تجارب تاريخية. لا أتذكر انني قمت بهذه المناقشة لنفسي او معها قبل ان اقرر تجربة كتابة الرواية. ولا أتذكر انني شعرت بالحرج في اختراق الحدود بين النمطين، فالذي حدث على ما يبدو هو نوع من التشبع بالتأمل في التاريخ، تشبع فجر التعبير عنه روائياً نوع من التعب والبحث عن المتعة في خلق اشخاص واستعمالهم في لعب قد تكون ادواره عاصفة ومأساوية. وحتى تجريب القدرة والاستطاعة لم يكن وارداً في وعيي، لأنني لم افكر في ان انشر على الناس احلامي الكاتبة، ولم افكر حتى في حكمة يعقوب الذي رأى ان قص الرؤيا قد يستتبع كيداً. يلاحظ بعضهم انك تستعرض احداثاً تاريخية بطريقة تخييلية لا تتناولها في البحث التاريخي بطريقة مباشرة. لماذا؟ - لروايتي الأولى "جارات أبي موسى" خلفية تاريخية في مغرب العصر المريني في أوجه في منتصف القرن الرابع عشر، ولروايتي الثانية "شجيرة حناء وقمر" خلفية تاريخية في مغرب القرن التاسع عشر، لا سيما في البادية، ولروايتي الثالثة "السيل" خلفية تاريخية في حياة قرية في جبال الاطلسي في منتصف القرن العشرين. لو افترضنا ان لدينا كمية عظيمة من وثائق التاريخ تتيح لنا بكثرتها وتنوعها وشمولها ان نسترجع حتى أحاسيس الاشخاص وأنفاسهم، لأمكن انطلاقاً منها ان نركب لوحات تاريخية موثقة تكون بكثافة وصف روائي، ولربما وجدنا فيها ما يمكن اخراج قصص تاريخي درامي، لكنه يحكي تاريخ اشخاص بعينهم في تفاصيل حياة عدد منهم كما عاشوها. هذا التصور يبقى مجرد تصور لأن وثائقنا التاريخية لم تكن لها هذه الغزارة ولا هذه الكثافة في مقاربة حياة الاشخاص. ومع ذلك فليس مبرراً لكتابة الرواية النقص في وثائق التاريخ، بل المرمى هو ابتكار الحياة والفرجة فيها عن بعد، اي الخروج من ضيق الذات المحاصرة بالواقع الذي يحتاج في كل حين الى شهود عيان. وكأني بك في سؤالك هذا تقول لي: لماذا تصنع جرة من خزف كان اصلها تراباً في الجبل؟ وجوابي هو ان للجبل قصته في تاريخ الطبيعة، وتجربتي قصتها في تاريخي انا، فالتاريخ الانساني وإن كان نتيجة شركة بين المشتركين فيه من الناس، كل مُسْهِمٌ بحظه، فهو منفلت لهم في النهاية بنتائجه، اما الجرة فتستعمل فيها مادة من الجبل كما نستعمل في الرواية مادة من التاريخ، لكن الجرة ليست جزءاً من الجبل، وإن كان الطين جزءاً منه، فقد تكون ظلال بعض اشخاص الرواية ظلال اشخاص تاريخيين، فانهم بأدوارهم في النص لا يحكون تاريخهم، وليس حتى وجودهم التاريخي مصدر ايحاء في العمل الروائي، فلا توجد جرات في الطبيعة ولا يوجد عطر فيها وإن وجد الزهر، لماذا لا نكتفي بالورد والزهر عن العطر؟ لأننا نحب التركيز والنشوة هنا في جمالية الجرة اثناء الصنع لا بعده وفي عبق العطر اثناء التقطير، وربما بعده أيضاً. فالمعالجة التاريخية لا تقبل التجاوز، اذ لها حدودها، ولعل جهل بعض المعلقين بطبيعة تلك المعالجة يجرهم الى الأحكام التي اشرت اليها. وأحكامهم يمكن ان تطلق جزافاً في حق جل الروائيين الكلاسيكيين، ولكنها لا تصيبهم. وعلى كل حال فتلك الاحكام صادرة عن امرين: معرفة اهتمامات الكاتب بالتاريخ، واستغرابهم "لتطاوله" على الكتابة الروائية. اعتنيت، في مجال التاريخ، بالأسلوب المونوغرافي، بما يفترضه من تدقيق وتحديد للموضوع في مكان وزمان معينين، في حين لجأت الى النفس شبه الملحمي في كتابتك الروائية. كيف تفسر هذا التوزع في الاختيار؟ - المونوغرافيا هي دراسة وصفية لموضوع خاص، اخترت دراسة تاريخ قبيلة من قبائل الاطلسي، لتجريب امكان انجاز تاريخ اجتماعي للبادية من حيث الامكانات المصدرية والقاء اسئلة هذا التاريخ على غرار ما كان يروج في الندوات المنهجية، وفي بعض ابحاث التاريخ الاجتماعي في فرنسا في اواخر اعوام الستين وأوائل اعوام السبعين. كان هذا منذ ربع قرن. وكانت النتيجة ايجابية لأن عددا من الابحاث حقق تلك المبادرة او المغامرة. ومكنتني شخصياً من ممارسة فحص مجهري للحياة الاجتماعية لتلك القبيلة، وقد يكون الحصاد المعرفي معيناً لي على الوصف الذي يستدعيه السرد الروائي، وقد يكون المرجع ايضاً اعمالاً اخرى عكفت عليها بالتحقيق مثل نصوص المناقب والتراجم، وأنت تعرف ان روايتي الأولى لا تجري في قبيلة بل في مدينتي سلا وفاس على الخصوص. ان المحلي ينطوي على ثروة ينبغي استجلاؤها، والتركيز على الخاص بغرض ابراز ما فيه من العام يتيح تعميق الفهم، وعيوب البصر قد تكون في قصره وقد تكون في طوله ايضاً. اظن ان الجواب عن هذا السؤال يقتضي ان اضيف القول أن "الروائي" ليس في المادة المعرفية بقدر ما هو في التخييل وفي احياء مصاير شخوص في علاقات درامية. وقد يأتي وقت اكتب فيه رواية ليست فيها هذه الابعاد التاريخية فيخف لدى النقاد الربط السطحي بين هذين الانشغالين: التاريخ والرواية. أثارت رواية "جارات ابي موسى" كثيراً من الردود، منها من يرى ان الحل القدري الاسطوري المقترح للخروج من الأزمة التاريخية يعكس، بشكل ما، بعداً من ابعاد الشخصية الفكرية لأحمد التوفيق... - انتهت رواية "جارات أبي موسى" بخروج عدد من النساء المحكوم عليهن بالسقوط، لطلب الغيث لأن المدينة كانت تعاني من القحط والجفاف، فيستجاب لأولئك النساء، ولم يستجب من قبل لمن يعتقد فيهم القرب من السماء. ليست هذه نهاية قدرية، بل هي نهاية حكيمة، فلسفية، اجتماعية، سياسية، حسب زاوية النظر التي يختارها المحلل. نهاية تشتمل على رؤيا، نظل نصدقها بمنطقنا عندما نبشر بوجوب عدم الانخداع بالمظاهر. رؤيا يقبلها النظر السني ويتبناها الرأي الصوفي. ومع ذلك فلا شذوذ فيها، ولكننا نحتاج الى مصادمة الناس لتنبيههم الى بعض البداهات. هنالك من يستغرب جرأتي على هذه المصادمة، وهنالك من يسطح الفهم ويرى انها نهاية تشجع على الانحراف. اما بالنسبة اليّ فهي تجل من التجليات التي يتحمل الكاتب مسؤوليتها. لو شرحت لي مقومات "شخصيتي الفكرية" كما يصنفها اولئك، لفتشت معك عن وجوه القرابة بين ذلك الاختيار لنهاية "جارات أبي موسى" وبين "معتقدي"، ان كان هو المقصود بالشخصية الفكرية. ان مواقف كل منا تتحدد بالمواقف المخالفة لها، ولا اعتقد ان كاتباً يكتب ليمرر مواقفه وحدها. فقد لا يكفي موقف واحد لبناء نسيج متكامل، وقد يكون الدرامي كامناً في الصراع بين افكار الكاتب والافكار المضادة، وقد يعن للكاتب ان يغلّب الفكرة المضادة لفكرته الشخصية، "فشخصيته الفكرية" فرّارة امام كل القراءات الساذجة، لأن الكتابة ليست صك اعترافات بل تتضمن نصيباً متفاوتاً من المكر قد يقع الكاتب نفسه ضحية له، وكلما تحكم في عقاقيرها استهواه التجريب واللعب. وهناك من يقول ان الكتابة هستيريا! ولم لا تكون فيضاً كذلك؟ جعلت في "جارات أبي موسى" و"شجيرة حناء وقمر"، من السلطة والمرأة محور انشغالاتك، هل الأمر يتعلق بادراك مفكر فيه لأهمية هذين العاملين في صنع التاريخ؟ أم باختيار يمنح للحكي الروائي حمولاته التخييلية والجمالية؟ - ارجح ان يكون الدافع هو الاعتبار الثاني الذي ذكرته، اي اعتبار قضية السلطة والمرأة ركيزتين قويتين لبناء الحكي وإتاحة المدى الأبعد للتخييل وإتاحة فرص لمواقف تتسم بالجمالية. ولكنني لست متيقناً ان الاعتبار الأول المتعلق بدور السلطة والمرأة في التاريخ غائب في الدوافع الخفية التي استهلمتها. كثيرة هي القضايا والأشياء التي يمكن ان تتخذ مرتكزاً للحفر في الحياة من اجل خلق ابداع مستند الى جانب من الجلال والجمال، وهما تجليان مقترنان، قد يلتبس احدهما بالآخر وقد يتضادان اذا كان احدهما منطوياً على زيف، فليس الجمال منطوياً على ضعف في المرأة بل على قوة وقد يكون جباراً، كما ان الجلال ليس في عنف السلطة لأنه قد ينسحب لترك المكان للرعب والفزع وهو ما يبعث عن ضعف. احب ان اراهما يتبارزان، وأجد متعة في ان يتغلب الذي يظن به الضعف. لا اظن ان استنباط معاني الجلال والجمال من تجليات السلطان وتجليات الأنوثة يحتاج الى تخييل، وانما الذي يحتاج اليه هو نوع من المعرفة بنوازع المصدرين في المعهود من الميول وفي ما قد يكون عارضاً او دفيناً مستخفياً. ومع ذلك فقد تكون السلطة والمرأة توسلات في روايتي الأولى والثانية، بينما القضايا الاساسية قضايا وجودية في اساسها وليست تاريخية ولا جمالية. فهنا ندردش معاً، انا وأنت ونطرق احتمالات، لأن الأمر ملتبس عليّ ايضاً. ماذا اردت ان اقوله؟ أشياء كثيرة، ولا شيء. في غضون سنتين اصدرت ثلاث روايات جارات أبي موسى، شجيرة حناء وقمر، السيل، وهو معدل استثنائي في الكتابة الروائية المغربية، ما سبب هذا الايقاع؟ - لعلي احاول بلا شعور ان استدرك الفوائت، ولربما انجذبت بقوة التلقي الايجابي للرواية الأولى، وقد اكون صدمت بالاستغراب من مبادرتي والتشكك فيها وقمت احاول اثبات الحضور بنوع من التحدي، ولعلي اكتشفت لذة الكتابة وصرت واقعاً تحت تأثير نوع من الادمان، ولعلي احاول ان افرج عن مكبوتات لا أتبين طبيعتها، لعلي وجدت في هذه الكتابة نوعاً من الانفلات من ضيق اليومي ورتابته، ولعلي احاول ان اعطي عن شخصي صورة خارج تصنيف تفرضه ملابسات معينة لا استسيغها، ومع هذا كله فقد يكون هذا الايقاع عادياً ولا مبالغة فيه بالنسبة الى ما يمكن ان اقوم به لو لم اكن ملزماً بشواغل ادارية وأكاديمية. أتمنى ان تتاح لي فرصة تفرغ تام للكتابة وإن كنت بدأت اتخوف منها.