إذا صح ما يشاع من أن المؤسسة العسكرية الجزائرية هي التي رعت ترشيح وزير الخارجية السابق عبدالعزيز بوتفليقة لخوض الانتخابات الرئاسية المقبلة، أو أنها أوعزت بذلك الترشيح ودعمته، حتى بوأت صاحبه منزلة المرشح الأوفر حظاً، وهو ما تميل قرائن عدة إلى تأكيده، فإن المؤسسة المذكورة تكون بذلك صادرت مسبقاً على صدقية الاقتراع الرئاسي العتيد وأضعفته وطعنت في نتائجه المحتملة قبل اجرائه! قد لا يكون لعسكر الجزائر شأن بمثل اعتبارات الصدقية تلك ما داموا لا ينتظرون من الانتخابات الرئاسية المزمعة سوى الإسهام في تأييد سيطرتهم على مقاليد الأمور، خصوصاً أنهم لا يكادون يبتدعون شيئاً في هذا الصدد وأنهم لا يفعلون سوى اتباع سنة راسخة في منطقة دأبت على اقتراعات مضمونة نتائجها لا تحتمل المغامرة، تكتفي غالباً بمرشحي الحكم من دون سواهم، وقد تلجأ أحياناً إلى تعددية صورية بلا مخاطر... غير أن المشكلة أن في الجزائر حرباً أهلية، جارية منذ سنوات ثمان، وان هذا "التفصيل" كان يفترض فيه أن يغير من طريقة مقاربة الأمور بحيث كان يمكن للمؤسسة العسكرية ان تراعي، إلى جانب هواجسها المتعلقة بالبقاء في السلطة فالكل واقعي ولا أحد يطلب منها، ناهيك عن أن يتوقع منها ايثاراً "انتحارياً"، ما من شأنه ان يساعد على إنهاء الأزمة السياسية - الأمنية التي ما انفكت تعصف بالبلاد. وقد لا يتطلب الأمر نفاذ بصيرة للقول بأن الرئاسيات الجزائرية المقبلة، إن سارت وفق ما لاح منها حتى الآن لا تكون ذات فعل في معالجة الأزمة، إن لم تؤد إلى استفحالها. وبواعث هذا التشاؤم عديدة، يتمثل أولها في شخصية المرشح الذيء يبدو أن السلطة العسكرية محضته ثقتها وتعمل على فرضه ويرجح ان تنجح في ذلك. فعبدالعزيز بوتفليقة، قد لا يكون الرجل الذي يمكنه ان يجسد أحلام الجزائريين بالتغيير، وهو ربما كان، في نظر الرأي العام في بلاده، من بين من يرمزون إلى فترة حزب الحكم الواحد، تلك التي جاءت تظاهرات تشرين الأول اكتوبر 1988 لتدينها وتعلن الضيق بها في أكثر أوجهها سلبية. وحتى لو كان الوازع من وراء ترشيح بوتفليقة استعادة البومدينية، تلك التي بات جزائريون كثر يحنون إليها، على اعتبار أنها كانت حقبة عزة وأمان، فإن المرشح المذكور قد لا يكون خير من يذكّر الناس بها، على الرغم من ارتباطه المديد بها، على رأس وزارة الخارجية، وربما كان من الأفضل اللجوء في مثل هذا الصدد ولمثل هذه الوظيفة إلى شخصية كمحمد صالح اليحياوي، مثلاً لا حصراً. هذا ان افترضنا بأن لمثل مناجاة الماضي هذه من جدوى. أضف إلى ذلك أن عبدالعزيز بوتفليقة كان معتكفاً طوال السنوات الماضية، لم يبدر منه كبير انشغال بالأزمة التي تعاني منها البلاد، فلا اتخذ موقفاً ولا أدلى بمبادرة. ناهيك عن أن ترشيحه قد اتخذ طابعاً انقلابياً، سواء داخل حزب جبهة التحرير الوطني ذلك الذي زكاه قبله ان يعلم فحوى برنامجه على حساب سواه ممن اعتبروا عن وجه حق بأنهم أحق بالتزكية، مثل أحمد طالب الإبراهيمي أو مولود حمروش، أو على صعيد الطبقة السياسية الجزائرية ككل وعلى اختلاف مشاربها. وهكذا، كان لترشيح بوتفليقة، وكيفية ذلك الترشيح، أسوأ الأثر على المناخ السياسي في البلاد وعلى أجواء الانتخابات المقبلة، فعوض ان تجرى الاستعدادات إلى هذه الأخيرة في إطار من الشفافية تعيد إلى الجزائريين بعض ثقتهم بمن يسوسون أمورهم، نرى ان الشبهة والارتياب من الصفقات المبرمة وراء الكواليس تشوبها وتفسد هواءها، وبدل أن يتجادل المرشحون، أو الطامحون في الترشيح، في شأن أزمة البلاد وسبل الخروج منها، اقتراحاً ومقارعة حجة بحجة ومشروع بمشروع، نراهم يكيلون الاتهامات ويصدرون بيانات الإدانة مطالبين ب "رفع الأيدي" عن الأحزاب السياسية حتى تستطيع الإقبال على الاقتراع المقبل حرة في تحديد سياساتها ومن تعهد إليهم بالتعبير عنها. وإذا ما استمرت الأمور على هذا النحو وليس ما يدعو إلى الاعتقاد بأنها لن تفعل، فإن ما يخشى هو ألا تفضي الرئاسيات المقبلة، بصرف النظر عن نتائجها من الأصوات، إلى تقريب الجزائر من فرص الحل لأزمتها، بل ربما مثلت، في هذا الصدد، انتكاسة على قدر من الخطورة. فمن بين التداعيات الأبرز للانتخابات المزمعة أنها ستؤدي إلى جب تلك التي سبقتها في تشرين الثاني نوفمبر سنة 1995، وأجراها الرئيس اليمين زروال وفاز فيها. والحال ان تلك الرئاسيات السابقة هي الوحيدة قياساً إلى استحقاقات اقتراعية أخرى اعقبتها خلال السنوات الماضية من برلمانية ومن بلدية ومحلية ومن استفتاء على الدستور التي مثل تنظيمها وما نجم عنها من نتائج، نصراً ورصيداً سياسيين تحققا لنظام الحكم، في حين كان ما عداها مطعوناً فيه لما شابه من شبهات التزوير ولما حف به من ضغوطات ومن شتى ضروب التلاعب والمناورة. فبفضل تلك الرئاسيات السابقة كانت سلطات الأمر الواقع الجزائرية وتلك كانت سمتها منذ إقالة الشاذلي بن جديد حازت على بعض شرعية انتخابية، كان يمكنها أن تواجه بها تلك التي تدعيها "الجبهة الإسلامية للانقاذ" منذ فوزها في اشتراعيات خريف سنة 1991. وقد استغل الرئيس زروال نجاحه ذاك زخماً ساعده على الدخول في مهمة إعادة بناء المؤسسات، وهي العملية التي استغرقت من الحكم الجزائري سنواته الأربع الفائتة. غير أن تنحي زروال، ذلك الذي أعلن عنه في أيلول سبتمبر الماضي، والانتخابات الرئاسية المبكرة التي ستعقب تلك الخطوة والجارية حملتها حالياً وفق ما سبقت الإشارة إليه، مع ما يحيط بها من جدل وشبهات ونقاط استفهام وارتياب وربما من تزوير محتمل، سيؤدي إلى إلغاء لحظة التأسيس التي تمثلت في رئاسيات سنة 1991، وما جاءت به من بعض شرعية انتخابية للنظام القائم، ما سيجعل من كل المؤسسات المدنية التي يستند إليها هذا الأخير، مطعوناً في تمثيليتها، فتستوي مؤسسة الرئاسة في ذلك بالبرلمان وبالمجالس المحلية وبسواها من المراتب التمثيلية الأخرى بعد أن كانت تختلف عنها كلها في اتسامها بقدر من المصداقية أكبر وأمتن. لكل ذلك، وإذا ما سارت الانتخابات الرئاسية الجزائرية المقبلة وفق ما تلوح نذره في طورها الراهن، فإن العملية تلك ستفضي إلى انتكاسة خطيرة، قد تنأى بالبلاد أكثر عن تحقيق أسباب التوازن والاستقرار السياسيين. صحيح ان تلك الانتخابات قد تعتبرها المؤسسة العسكرية نجاحاً لها، طالما أنها ستجرى وفق مشيئتها، وستنتهي بفوز المرشح الذي اختارته، على ما هو مرجح، وستكلل بذلك عملية وضع اليد على مجمل الفضاء السياسي في البلاد بأكثر مما كانت عليه الحال حتى مع الرئيس زروال، طالما ان هذا الأخير وإن كان متأتياً من صلب تلك المؤسسة، وإن كان قد وصل إلى السلطة بإرادة منها، إلا أن نجاحه في الانتخابات الرئاسية السابقة يمكنه ان يعد، وإن على نحو ما، رصيداً له خاصاً وشخصياً، وتلك لن تكون حال خلفه المحتمل، ولكن هذا النجاح المحتمل للمؤسسة العسكرية سوف لن يكون نجاحاً للجزائر، خصوصاً أن تجربة السنوات الماضية برهنت على أنه كلما أمعنت السلطات في إحكام قبضتها على اللعبة السياسية وفضائها ومكوناتها المدنية، تأكد اخفاقها في حل الأزمة الجزائرية، وهو ما قد لا يتيسر من دون ايجاد مقاربة سياسية لمشكلة العنف والارهاب، تلك التي لا تزال مستعصية يدفع كلفتها الأبرياء. غير أن الوضع القائم حالياً في الجزائر قد لا يكون مطلق القتامة، بل أن حملة الرئاسيات الجارية ربما مكنت القوى السياسية المدنية، أو بعضها الفاعل والمستقل، من بعض فرص المبادرة، فهي يمكنها لو توفرت لديها الإرادة وحد أدنى من التنسيق أن تتفق على مرشح جدي، ذي مصداقية، يكون ترشيحه مناسبة لطرح المشاكل التي تواجه البلاد ويفرض الخوض في تلك المشاكل الحيوية على أجندة السجال الانتخابي، على ألا يتوخى في اختيار مثل ذلك المرشح مراعاة ضرب من الاجماع رخو، يخدر المشاكل المطروحة ويشذب نتوءاتها، بل أن يجري ذلك على نحو لا يتردد في إثارتها وفي اطلاق النقاش الفاعل والصريح فيها وحولها. رجل مثل حسين آيت أحمد، زعيم حزب القوى الاشتراكية، ربما توافرت فيه شروط الاضطلاع بمثل هذا الدور على الرغم من "قبائليته"، ذلك ان صفته هذه لا يجب أن تكون عائقاً في وجه ترشحه أو ترشيحه، بل يتعين أن تكون، على العكس، حافزاً على ذلك. فقد يكون ترشيح آيت أحمد من بين أفضل السبل لطرح تلك المشكلة القبائلية على نحو ايجابي، من خلال البرهنة على أن الوطن الجزائري يتسع لهم ولدورهم وهو ما لا يعتقده البعض منهم لأسباب قد تكون وجيهة وقد تكون متوهمة، لكنها فاعلة في كل الحالات. ثم ان آيت أحمد يتمتع بميزة أخرى هي تلك المتمثلة في أنه واحد من آخر المتبقين من القادة التاريخيين للثورة الجزائرية. وما دامت هذه الأخيرة لا تزال مصدراً لكل شرعية، في انتظار ان يصار إلى صياغة أخرى بديلة، فإن ذلك يمنحه بعداً جزائرياً يتخطى صفته المحلية من ناحية، ومن ناحية أخرى، يمكن لترشيحه، إن جرى على أسس ديموقراطية وأفضى إليها، ان يشكل لحظة الانتقال بين الشرعيتين، تلك القائمة والتي أصابها الاهتراء، وتلك التي ما زالت في طي الغيب تجهد الجزائر في العثور عليها، والقناعات الديموقراطية التي يبدو أنها راسخة لدى آيت أحمد ربما كانت عاملاً مساعداً على ذلك. أما العامل الثالث، والذي ربما كان من بين أبرز مسوغات ترشيح آيت أحمد للرئاسيات المقبلة، ان الرجل، وإن كان علماني الوجهة بوضوح، إلا أنه ليس استئصالياً، فهو قد نادى باستمرار بأنه لا حل من دون الحوار مع المعارضة الاسلامية، كما أنه كان من بين الموقعين على اتفاقية روما، وهو ما يمنحه حظوظ الاطلال على ذلك الشق من الجزائريين الذي انفقت السنوات الماضية في تغييبه دون جدوى. لكل هذه الأسباب، وحتى لا تكون الرئاسيات المقبلة مجرد استفتاء تجريه المؤسسة العسكرية من أجل تثبيت الرجل الذي اختارته على رأس الدولة الجزائرية، ربما كان على المعارضة السياسية الجزائرية ان تتفق على مرشح لها تكون فيه المواصفات المذكورة أو بعضها، علّ ذلك يساعد على تحويل الرئاسيات المقبلة إلى انتخابات حقيقية. * كاتب تونسي مقيم في باريس