من الشعر والمسرح الى الفنّ التشكيلي خطوات يجتازها فؤاد نعيم بجرأته المعهودة منتقلاً من كونه رسّاماً هاوياً الى الاحتراف الذي يتطلب سنوات من الاختبار والبحث. وفي لوحاته التي تتخطّى الأربعين مؤلّفةً معرضه الأول يُفصح المخرج والشاعر والإعلامي عن شغفٍ كبير باللون وتحوّلاته وعن هوى حارق بالأشكال والخطوط والأحجام الطالعة من عمق المخيّلة واللاوعي والتأمّل. ولعلّ أوّل ما يلفت المشاهد هو اندراج اللوحات في سياق تكويني يتيح أمامها تأسيس عالم متدرّج أو متنامٍ من لوحة الى أخرى. إنّه عالم الرسام الداخليّ يتجلّى عبر معالمه المختلفة والمتآخية كلّ التآخي: التجريد هنا لا ينقض الترميز والمناخ الصوفي يكمّل المناخ الميتولوجي الشرقي بامتياز والوثني في بعض الأحيان. ولا غرابة أن تستحيل بعض الأشكال والخطوط والتعرّجات الى أناشيد لونية تعلو وتنخفض تجمعها أنغامها الداخلية المتهادية والمتوترة في الحين عينه. ولئن اعتمد الرسام بعض الحروفية بغية اشباع بعض لوحاته وترسيخ طابعها الشرقيّ فهو ظلّ حرّاً في تعاطيه الفن الحروفيّ بل انّه كسر قاعدة هذا الفنّ مخضعاً إيّاه لذائقته ومقاربته الشكلية الخاصّة. فالحروف هنا تميل الى حالة هيروغليفية تكوينية تضمر معانيها ولا تفصح بها بسهولة ولا تسلّم ألغازها إلا بهدوء ورؤية. فالخطوط التي تبرز في اللوحات لم يخطّها الرسام ولم يسع الى جعلها خطوطاً مقروءة وفق الطريقة التقليدية. فدورها جمالي بامتياز ورمزيّ بامتياز أيضاً: إنّها تمثل العودة الى الصمت الأول أو الى التعبير الصامت القادر وحده على التعبير عمّا يعجز الكلام عن أن يعبّر عنه. إنّها خطوط بصرية في درجة أولى وروحية في درجة ثانية. وقد أدّت بعض اللوحات دور أوراق البرديّ أو الجدران القديمة حيث خطّ الفنان الأوّل تعابيره الأولى. إلا أنّ فؤاد نعيم الذي يلجأ الى التجريد بحثاً عن المعرفة في اللون وعبره لا يقع في الجفاف الذي يهدّد التجريد عادة. فالتجريد لديه لا يخلو من حالٍ غنائية نابعة من عمق الذات: الذات الشاعرة والحالمة والمتأملة والرائية. التجريد هنا يستحيل تكويناً: مساحات تقابل مساحات، أحجام تتوالد من أحجام، طبقات تغطّي طبقات ورموز تفصح عن رموز. وتتميّز الغنائية الداخلية في الطقوسية اللونية التي استطاعت عبر كمودها واشتعالها الداخليّ أن تبتعد عن اغراءات التلوين والزخرفة والتصوير. فالألوان تميل الى الترابية وهي لم تخل أصلاً من بعض التراب والرمل اللذين مزجهما الرسام بالألوان الأكلريك والباستيل ليصل الى مادّة لونية ليست غريبة عن مادّة التكوين. يمنح الرمل والتراب المتواريان في صميم الألوان مساحات اللوحات آفاقاً أخرى طبيعية وغير طبيعية، رمزية وميتافيزيقية. فاللوحة هي فضاء الولادة والموت، فضاء التمتمة الأولى، فضاء الحلم والرؤيا. وقد استحالت بعض الأجزاء الى ما يشبه التراقيم أو التعازيم التي طالما استخدمها الإنسان الأسطوريّ الأول ليواجه القدر والطبيعة والحياة. ينتمي فؤاد نعيم الى المدرسة التجريبيّة بامتياز فهو لا يرسم ليرسم ولا يرسم ليعبّر فقط وإنّما ليؤسس ويبني ويكتشف وربّما ليجد بحسب ما يقول بيكاسو. متعة الرسم هنا تترسّخ عبر اعادة تكوين العالم تكويناً أسطورياً وطقسياً وميتافزيقياً. فاللون والرسم والخط ليست إلا مواد للتأليف فهي لا تصف العالم ولا تعيد وصف الطبيعة والوجوه والأشياء: انّها تعيد خلقها جميعاً ولكن انطلاقاً من الرؤيا والحلم والتخييل. في هذا المعنى تكتسب تجربة التشكيل هنا بعداً اختباريّاً: إنّها تجربة خلق وليست تجربة نقل، تجربة ابداع من عدم لا تجربة وصف للظواهر. هكذا يصبح الرسم استبطاناً للعالم الداخلي الذي لا نهاية له: عالم الأحاسيس والرؤى والأحوال والأحلام والتحولات. لا يخفي فؤاد نعيم كرسام نزعته الشرقية لكنّه في الحين عينه لا يقع أسيراً لها. فبعض اللوحات تبدو كأنّها صنوج من نحاس وتبدو لوحات أخرى كأنها قريبة كلّ القرب من الأيقونات البيزنطية ولكن خالية من موضوعها الديني. وتبدو بعض اللوحات كأنّها أجزاء من أبواب أو نوافذ شرقية قديمة في لونها الترابيّ أو البني الكامد وهي أبواب وشبابيك تحفز مشاهدها اعلى فتحها ولو خيالياً ليطلّ منها عالم ساحر وبهيّ هو عالم الشرق القديم، عالم الخيال والبراءة، وفي غمرة الألوان الراكزة والكامدة والترابية تلوح من حين الى حين ألوان مضيئة وكأنها طالعة من نور خفي في القلب أو من نار سرّية في النفس: كالأصفر المشتعل أو الأزرق أو الأحمر الذي يؤلف في إحدى اللوحات ما يشبه الإطار التكويني. ومن عرف فؤاد نعيم شاعراً ومسرحياً طليعياً ومجدّداً لا يستغرب هذه الجرأة التي تسم دخوله عالم الفنّ التشكيلي. ومثلما أبدع في الشعر والمسرح وكان في طليعة المجدّدين الاختباريين ها هو يمضي في اختباره للفنون جامعاً بينها مؤسساً لغة تعبيرية جديدة هي الرسم. ولئن عرف فؤاد نعيم بثقافته العميقة والشاملة فهو لا شك عرف كيف يوظف ثقافته البصرية في صنيعه التشكيليّ وعرف كذلك كيف يجمع بين الشاعر فيه والمسرحيّ باحثاً عن أشكالٍ جديدة وباهرة تستوحي كلّ الفنون وتنسجها جميعها في صيغة تشكيلية تبهر العين وتخاطب المخيّلة وتقارع القلب وتصغي الى أناشيد الروح. فؤاد نعيم رساماً هو نفسه الشاعر والمخرج ولكن أمام صفحات بيضاء أخرى وفي فضاءات سينوغرافية أخرى. وكذلك أحلامه هي نفسها وهواجسه أيضاً ورؤاه. * يقام المعرض في صالة "أيبروف دارتيست" - بيروت.