ينشغل الفلسطينيون من القاعدة الى القمة منذ أيام، في جدال آخر هذه المرة، لا علاقة له بالانتخابات الاسرائيلية، أو اعلان اقامة الدولة في 4 أيار مايو المقبل، وانما يتصل بتنفيذ قانون الخدمة المدنية الذي كان المجلس التشريعي أقره قبل عامين وصادق عليه الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات. وبدئ بتطبيقه منذ نهاية العام الماضي أولاً على قطاع التعليم، ثم تدريجاً على جميع موظفي الخدمة المدنية اعتباراً من مطلع العام الجديد 1999. ويعكس القانون محاولة المجلس التشريعي الفلسطيني، اضفاء الصبغة القانونية على قطاع التوظيف في السلطة الوطنية، بعد أربع سنوات أوشكت فيها عملية بناء هيكلة الجهاز الحكومي ان تكتمل. والمفهوم الرئيسي الذي ينطوي عليه القانون هو إعادة النظر في هذه الهيكلية، بوضع قواعد ومقاييس قانونية، يمكن من خلالها تسكين الموظفين وفق سلم جديد من الدرجات انطلاقاً من المؤهل التعليمي، ومن ثم ربط هذا السلم الوظيفي باستحقاق مالي يأخذ في الاعتبار غلاء المعيشة، وانصاف عدد كبير من الموظفين، خصوصاً من الفئات الدنيا في السلم الوظيفي، الذي لا يتجاوز فيه راتب الكثير منهم ألف شيكل، أي ما يعادل أقل بقليل من 300 دولار. وقياساً بمستوى المعيشة، الذي يرتبط اقتصادياً باسرائيل، بسبب اتفاق باريس الاقتصادي الذي يجعل الفلسطينيين يستهلكون نفس السلع تقريباً وبأسعارها، فإن متوسط دخل عائلة اسرائيلية مكونة من 5 أفراد هو 6 آلاف دولار، أي ما يعادل أكثر من ستة أضعاف دخل موظف في الحكومة الفلسطينية يتقاضى ألف شيكل. ولكن بينما حسن هذا القانون قليلاً من وضع الموظفين في الفئات المتأخرة في آخر السلم الوظيفي، بزيادة تصل في بعض الحالات الى 30 في المئة من قيمة الراتب القديم، إلا أن تطبيق القانون، الذي حرك سلم الدرجات للغالبية العظمى من الموظفين الى الوراء، اثار جدلاً عارماً لم ينته بعد حول صوابية صياغته في الأصل، ومن ثم اسلوب تطبيقه. وبينما انحى المجلس التشريعي الذي سن القانون، باللائمة على وزارة المال وديوان الموظفين في أعقاب الضجة التي أثارها التطبيق، فإن كل طرف من هذه الأطراف حاول توجيه اللوم الى الأطراف الأخرى في طريقة تنفيذ القرار. وبدا أخيراً، ان جميع التظلمات تحتاج من الرئيس الفلسطيني التدخل لإعادة ضبط الأمور وذلك بعد أن تدخلت حركة "فتح" لدى الرئيس عرفات لرفع الحيف الذي الحقه تطبيق القانون بالقطاع الأوسع، الذي يمثل الكوادر الحزبية ومناضلي الثورة الفلسطينية. وبحسب القانون الجديد، فإن موظفاً حاصلاً على شهادة البكالوريوس أو الليسانس لهذا العام، يمكن أن يتساوى في الدرجة مع كادر قيادي في العمل الفلسطيني، امضى 25 عاماً في مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية، أو في المعتقلات الاسرائيلية، بحيث يتساوى جيلان من الموظفين الفلسطينيين في نفس الدرجة، من دون أخذ الهوة التي تفصل بينهما في الخبرة في الاعتبار، وقبل ذلك من دون مراعاة الظروف التي حرم بسببها هؤلاء من اكمال تعليمهم الجامعي، إلى جانب ان الخبرات التي كونها هؤلاء خلال تجربة العمل الفلسطيني قبل قيام السلطة الفلسطينية، لا تزال هي الخبرات التي تشكل المصدر الرئيسي الذي يستند اليه عمل السلطة، سواء في المجال الاداري، أو السياسي التنظيمي أو الاعلامي. ومع ان القانون أخذ في الاعتبار الحق المالي المكتسب للموظفين، بعدم المساس برواتبهم حتى في حال ارجاع درجاتهم، وفق التسكين الجديد، إلا أن هذا التسكين يقضي بأن يمضي الموظف سبع سنوات ونصف سنة في عمله حتى يتقدم درجة واحدة، وفي بعض الأحيان، فإن تجاوزات حدثت، أدت الى ترجيع درجات بعض الموظفين في السلم الوظيفي، واكلت من رواتبهم السابقة، بدلاً من أن تبقي عليها كاستحقاق مكتسب، مما أثار تذمراً واسعاً في أوساط الموظفين. لكن التذمر الأكبر، حدث في قطاع الصحة والجهاز التعليمي بسبب الغاء قيمة العلاوات التي تستحقها مثل هذه المهن. وكما حدث في قطاع التعليم العام الماضي، فقد نفذ الاطباء والممرضون اضراباً عن العمل مطالبين بانصافهم، مما استدعى ان يتوجه وزير الصحة الدكتور رياض الزعنون الى الرئيس عرفات، طالباً اعادة النظر في تطبيق القانون بالطريقة التي جرت، عارضاً عليه عينة لرواتب عدد من الأطباء والممرضين لوضعه في صورة ما يحدث. ويعكس الجدل الفلسطيني حول هذا الموضوع، تخوفاً من نظرة يعتبرها الكثيرون ساذجة وسطحية، تجعل من الشهادة الجامعية بمثابة مقياس وحيد للخبرة والكفاءة. ويشبه بعض هؤلاء ما يجري كما لو أن القانون يحاول تشذيب غابة كبيرة بمقص واحد ليجعلها متساوية، بينما المطلوب بحسب هؤلاء، هو التوصل الى صياغة سلم وظيفي يأخذ في الاعتبار مسألتين: الأولى، ايجاد مقاييس اكثر واقعية وعملية لاستنباط الكفاءات النوعية من بين كم هائل من الموظفين، على أساس وضع الكفاءات في المكان المناسب، واعطائها الفرصة، والحوافز الكافية، لممارسة دور أكبر في عملية البناء والتنمية، والثانية، ربط السلم الوظيفي بمعدل مرن ومتحرك من الناحية المالية مع ميزان غلاء المعيشة، ليتحقق قدر أكبر من الكرامة الانسانية لموظف الدولة.