خطّ أحمر عليك أن تجتازه قبل الدخول الى معرض بسّام لحود "الجدران الجديدة - برلين 1984 - 1998". فالمصور وهو أستاذ الفن التصويري في الجامعة اللبنانية الأميركية استلهم هذا الخط الذي يلف قاعة معرضه من خط مشابه له رسمه الألمان للذكرى بعد هدم الجدار الذي شطر عاصمتهم الى غربيّة وشرقيّة طيلة أعوام الحرب الباردة. ولكن ليس هذا الخط وحده الذي يدخلك الى عالم برلين بين الأمس واليوم بل يمتدّ ليطال الصور ال45 المزدوجة سواء عبر الأشخاص أو المواقع أو الأوضاع التي جهد المصوِّر لنقلها بأمانة. ولكن، لماذا اختار لحود تصوير برلين تحديداً ومقارنة التحوّلات التي طرأت عليها بين الأمس واليوم، ولم يقع اختياره على بيروت مثلاً؟ في الواقع، تعود قصّة تصوير برلين الى العام 1984، آنذاك، كانت العاصمة اللبنانيّة بيروت تحترق تحت وابل القذائف والنيران وتواجه خطر التقسيم هي المشطورة بدورها على غرار برلين، لكن بخط تماس أخضر يفصل بين بيروتين: غربيّة وشرقيّة. في ذلك العام، جال بسّام لحّود مع بعثة ألمانية تزور بيروت على معالم المدينة. ودعته البعثة في ختام جولتها الى زيارة برلين، وكان الفصل شتاء. أثناء الزيارة التي استمرّت زهاء شهر قام المصور عبر كاميراه بالتقاط صور لمدينة برلين الحزينة نظراً الى وضعها السياسي المتدهور. يقول لحّود "رافقتني في مهمّتي صبيّة تدعى مونيكا، وجلنا معاً سيراً على الأقدام في كل أحياء برلين من كرويتسبرغ - الحي الشعبي الى شارلو تنبرغ - الحيّ الراقي في برلين الغربيّة. كذلك زرنا كل المناطق الأثريّة القديمة في برلين الشرقيّة. ورغم ما اعترضنا من عراقيل لا سيّما في برلين الشرقيّة حيث كدت أسجن بسبب التقاطي صوراً قرب الجدار، فقد نجحت في ايصال رسالتي عبر معرض أقمته في معهد غوته بمناسبة مرور 750 عاماً على تأسيس برلين، وعنوان الرسالة "لا نريد بيروت مثل برلين". قبل عام من هدم الحائط في 9 تشرين الثاني نوفمبر عام 1989، التقى البرلينيون عند بوّابة براندنبرغ، ثم هدم الجدار، فأرسل أصدقاء لحود له رسالة تحوي أجزاء من الجدار، فقرّر تصوير برلين بعدما توحّدت، سلكت الفكرة طريقها الى التنفيذ في صيف هذا العام بمساعدة مديرة معهد غوته الدكتورة مونيكا فون كرافت. عند وصوله الى برلين، عكف لحود في البداية على التفتيش عن الأماكن التي صوّرها عام 1984 وقد تبدّلت معالمها اليوم، وهو نجح في إيجاد 90 في المئة منها، بفضل مونيكا وهي اليوم أم لطفلة. وخاض معها مجدّداً مغامرة تصوير برلين بعد هدم الجدار. الرِّسالة التي يحملها المعرض هذا العام تقول بأن برلين تشبه بيروت: فهي تعيش ورشة إعمار يتحكم فيها أشخاص قليلون و"مافيات" تخلق "جدراناً" جديدة، تتجسّد عبر الأبنية الشاهقة والسياجات أو الحواجز. أمّا الحائط الذي كان يشطر العاصمة برلين الى شرقية وغربية فقد أصبح اليوم موجوداً في كلّ مكان. صحيح أنه يتمّ ترميم الأبنية القديمة بدقّة وانتباه، لكن ثمة جدار كبير يبنى ويشوّه برلين هو مشروع مرسيدس - سوني في ساحة بوتسدام - بلاتز. يقسم المعرض الى 5 عناوين: الحائط وما حلّ مكانه، الفنّ المعماري والتبديلات الهندسيّة، الحياة اليوميّة لسكان برلين، مشروع مرسيدس - سوني واللوحات الإعلانية. تبدأ قصّة برلين من بوابة براندنبرغ حيث كان الحائط قائماً: وعلى رغم اختلاف الأماكن أحياناً بين صور الأمس واليوم تبدو الصور مترابطة إذ تعكس أوضاعاً متشابهة، عكس اللون الأسود والأبيض الحاضر في صور عام 1984 حالة اليأس والقنوط التي كانت تلفّ برلين وقد استغلّ لحّود فصل الشتاء ليعكس ذاك التجهّم وأجواء الإحباط. أما صور عام 1998 الملوّنة فتظهر جوّاً من الأمل، وفي إحداها مونيكا وابنتها الصغيرة وهي رمز للمستقبل الواعد. اللون الأحمر يتدرّج في الصور تلقائياً، ويتواجد في أشكال عدة وبطريقة تبدو عفويّة على رغم أن لحّود توخّى وجوده امّا عبر سيارة أو دراجة أو لباس أو حتى بقع حمراء. وإذا كان اللون الأحمر يحتلّ مكان الحائط المهدوم فإنه يذكر أيضاً بالشيوعية. من جهة أخرى، تظهر سلبيات عدة في حياة الناس اليومية وخصوصاً في أمكنة سكنهم، وتظهر إحدى البنايات التي كان يسكنها مشرّدون في عام 1984 وكانت مزينة برسومات جدرانيّة، وقد رمّمت اليوم في طريقة أفقدتها جماليّتها - وفي متحف الفنّ القديم، أزيلت منحوتة جميلة، ووضعت مكانها كومة من الحصى! كذلك يعكس لحّود في صوره نظرات الناس وتصرّفاتهم، فيبدو أهل برلين الشرقيّة عابسين متجهّمين جامدين على نقيض أهل برلين الغربيّة الأكثر انفتاحاً وبشاشة. كما تعكس الصور حياة شباب برلينالشرقية الذين طالما حرموا حياة اللهو والعبث، فإذا بهم يعيشون اليوم ما عاشه قبلهم شباب برلين الغربيّة. في الصورة الأخيرة من المعرض وتحمل عنوان "تنظيف الأحمر"، إعلان صوّره لحود هذا العام ويظهر فيه مسحوق غسيل تجاوره ثياب داخلية حمراء، وقد رسم أحدهم تحته شعار الشيوعية ودوّن عبارة "برلين حمراء" فوضع لحود تحت الصورة بقعة حمراء تدليلاً على أن "الأحمر" قد يعود يوماً. من يشاهد صور بسام لحود عن برلين ما قبل هدم الجدار وما بعده يلمس فعلاً تحولات تلك المدينة من مرحلة الى مرحلة. * أقيم معرض "جدران جديدة" في معهد غوته بيروت، طرابلس وانتقل الى معهد غوته دمشق وافتتح في 7 كانون الأول ديسمبر. وينتقل الى عمان في 27 كانون الثاني يناير، على ان يُقام في حزيران يونيو المقبل في مدينة برلين بمناسة مرور10 أعوام على هدم الجدار التاريخي.