العملة الموحدة، اليورو، دخلت حياة الناس الأوروبيين منذ امد ليس بالقصير. صحيح ان لا احد يستعمل هذه العملة لدى اقتنائه رغيف خبز او علبة سجائر، فذلك لن يصبح ممكناً الا في بداية كانون الثاني يناير من السنة المقبلة، ولكن لا حديث على امتداد القارة الأوروبية الا عن اليورو: سجالات تكاد لا تنتهي بين اغلبية تحتفي بهذا الحدث، على اعتبار انه سيمكن بلدان القارة، مجتمعة، من التحول الى موقع القوة الاقتصادية الفاعلة في العالم، ذلك الذي انفردت به الولاياتالمتحدة، ودولارها طوال عقود، وبين اقلية لا تنظر بعين الرضا الى اختفاء العملات الوطنية، وهي بين رموز السيادة في منزلة الصدارة، ولا يمكن لاضمحلالها الا ان يكون برهاناً لا يخطئ على تلاشي الأوطان والدول. سيل من التحليلات والدراسات والنقاشات حول اقرار العملة الموحدة، وأي اثر يمكن ان يكون لها على اقتصادات أوروبا وعلى اقتصاد العالم. ثم ان اليورو كان حاضراً، طوال السنوات الماضية، في كل النزاعات والاضطرابات الاجتماعية التي عاشتها بلدان أوروبا الغربية، وبعض تلك النزاعات والاضطرابات كان بالغ الحدة. فقد كان على الحكومات، يمينية كانت ام يسارية، ان تخفض النفقات الاجتماعية بشكل صارم قاس، وهو ما تضرر منه بعض القطاعات، والاكثر هشاشة بينها بشكل خاص، وذلك باسم تأهيل اقتصادات الدول المعنية للانخراط في العملة الموحدة. كما ان البرلمانات ناقشت الامر طويلاً، باحتداد في بعض الاحيان، وصوتت عليه. اضف الى ذلك ان عددا من المحلات التجارية بات يكتب اسعار البضائع باليورو الى جانب العملات المحلية، وذلك من باب تهيئة المستهلكين لذلك التحول الكبير، اي لدواعٍ بيداغوجية. وهكذا، وحتى قبل ان يصار الى إقرار اليورو، فإن مواطني اوروبا الغربية ما انفكوا يعيشون على إيقاعه منذ سنين، سلباً ام ايجاباً. حتى ان القمة الأوروبية التي بدأت اعمالها يوم امس السبت، والتي كان عليها ان تتخذ الخطوة النهائية والرسمية لبعث العملة الموحدة الى الوجود، أتت بذلك عملاً يكاد ان يكون بمثابة الاجراء التقني، على الأقل في نظر رأي عام كان قد استعد منذ امد لذلك القرار، وساهم في صياغته بالنقاش او بالاستفتاء او بالتضحيات التي كان عليه ان يبذلها. وبكل ذلك، تكون أوروبا الغربية قد علمتنا كيف يمكن في هذا العصر المعولم احداث ثورة بهذه الأهمية والخطورة، ثورة يتوقع ان يكون لها بالغ الأثر على الاقتصاد العالمي، وعلى بنية النفوذ، بما في ذلك السياسي منه على الصعيد الدولي، بهذه الطريقة السلمية، وبواسطة توسل المؤسسات الديموقراطية القائمة داخل كل بلد، وحدها دون سواها. ذلك انه اذا ما امكننا القول بأن انشاء الاتحاد الأوروبي، ذلك الذي يمثل إقرار العملة الموحدة بعض ابرز لبناته ان لم يكن لبنته الاصلب، قد أدى الى بعث امبراطورية جديدة سيحسب لها حساب في مستقبل الأيام، اقله على الصعيد الاقتصادي في طور أول، فإن الميزة الأساسية لتلك الامبراطورية انها قامت بالتراضي بين البلدان المكونة لها، وذلك امر قد يكون فريداً من نوعه، او هو على الأقل نادر الحدوث في التاريخ. وإذا كان مثل ذلك الانجاز ممكناً بالطريقة التي تحقق بها، فذلك - عدا استناده الى الديموقراطية داخل كل بلد - لأنه لم يكن على اي من مكونات الاتحاد الأوروبي ان يتخلى عن سيادته، او عن جزء منها، لأحد. يستوي في ذلك أقوى الاطراف مثل المانيا، مع اكثر الاطراف ضآلة مثل دوقية اللوكسمبورغ. صحيح انه ما كان لذلك الكيان الأوروبي الجامع ان يرى النور لولا قبول كل من البلدان الاعضاء بالتضحية بمظاهر سيادته، كلها او جلها، وصلاحية صك العملة من بين اخطرها وأهمها. لكن عملية التخلي تلك لم تجر لحساب هذا الطرف، بدعوى انه الاكبر حجماً وتأثيراً، على حساب ذاك على اعتبار انه الأضعف والأقل شأناً، بل لصالح مؤسسات فوقية تم إنشاؤها ويستوي الجميع امامها وفي المعادلة التمثيلية داخلها. وهكذا جرى التخلي عن بعض الصلاحيات التنفيذية، للمفوضية الأوروبية التي قد تتحول تدريجياً الى حكومة للقارة بأسرها، كما ان بعض الصلاحيات التشريعية انتقلت الى البرلمان الأوروبي، ومقره ستراسبورغ، وهو برلمان ان كان فعله وتأثيره محدودين في الوقت الحالي، قياساً الى البرلمانات الوطنية، فلا يكاد يوجد من شك في ان دوره سيتعاظم مع مرور الأيام، ومع ترسخ البناء الأوروبي، حتى يصبح قلب السلطة التشريعية على صعيد القارة. اما المجالس الوطنية فتتحول محطات تمثيلية وسطى بين ذلك البرلمان الجامع وبين مراتب التمثيل الاخرى على مستويات اكثر محلية او جهوية، او ما شابه ذلك من الصيغ. وأما السيادة النقدية، فتخلت عنها الدول الأعضاء او نقلت جزءاً كبيراً منها من المصارف المركزية الوطنية الى مصرف مركزي أوروبي تم إنشاؤه في مدينة فرانكفورت الألمانية. وهذا المصرف الذي ستتولى ادارته مجموعة من ستة اشخاص، اضافة الى رئيس، روعي فيه السهر على مقدرات اليورو، خصوصاً في ما يتعلق باستقرار الاسعار، على ان يكون بمنأى عن كل ضغط سياسي وعلى ان يتخذ قراراته، في ما يتعلق بالسياسة النقدية، بالتعاون مع مدراء المصارف المركزية في الدول الأعضاء، وهي ستكون 11 دولة فقط في مرحلة اولى. ذلك ان بعض الدول لم تتوفر فيه شروط الالتحاق بالعملة الموحدة اليونان على سبيل المثال، في حين رفض البعض الآخر، تحديداً بريطانيا والدانمارك والسويد، ان يكون في عداد الفوج الأول من المنخرطين في اليورو. والمواصفات السابقة هي ما يمثل، في الآن نفسه، قوة الانموذج التوحيدي الأوروبي وضعفه. فهذا الاتحاد الذي قام على أسس ديموقراطية على ما سبقت الاشارة، لا شك في انه يتمتع بعناصر الاستقرار والثبات، لكن تخلي الدول الاعضاء عن سيادتها الوطنية الى مراتب فوقية جامعة، مثل المفوضية الأوروبية او برلمان ستراسبورغ او ما شابه، لم يؤد الى مد الاتحاد الأوروبي بهوية سيادية جديدة تعبر عنه بصفته هذه، بل الى تحول تلك المؤسسات الاتحادية الى حيز تحيد فيه تلك السيادات الوطنية بعضها البعض لا اكثر، بحيث لا يمكنها ان تلتقي الا حول حد ادنى باهت قليل الفعل. والأمر هذا يمثل مشكلة حقيقية، لا مجرد مسألة نظرية يتلهي بها المولعون بمناقشة فلسفات الحكم وما اليها من قضايا حقوقية وقانونية. وأهميتها تتبدى بشكل ملموس حيال بعض الجوانب الحيوية في حياة الدول مثل الديبلوماسية وقضايا الحرب والسلم. فكل هذه الامور هي امور سيادية بامتياز، لا يمكن للمؤسسات الاتحادية الأوروبية القائمة حالياً، وعلى ما هي عليه الآن، ان تضطلع بها. ولعل ذلك ما يفسر ما يلاحظ من اداء اوروبي محدود أو هزيل على هذه الاصعدة. فأوروبا لم تتمكن من صياغة سياسة خارجية فاعلة، حتى تجاه الملفات الحيوية بالنسبة لها، كقضية الشرق الأوسط او الوضع في البلقان، وهي ان أصبحت قوة اقتصادية كبرى في العالم الا انها لا تزال قزماً سياسياً على ما تقول عبارة شائعة في شأنها. ولعل ذلك أيضاً ما يفسر ان اوروبا لا تستطيع ان تزعم التأثير في شؤون العالم الا من خلال ما تبقى لبعض كياناتها من سيادات وطنية، حيث يتحرك بلد مثل فرنسا مثلاً، بصفته هذه وإن حاول الاستفادة من الزخم الأوروبي وتجنيده، او يضطر الى استجلاب الدعم من خارج الاتحاد الأوروبي، كأن يحاول التنسيق مع روسيا، كما حدث خلال الازمة الاخيرة مع العراق. وإذا كان اعتماد العملة الموحدة قد زاد، من دون شك، السطوة الاقتصادية لأوروبا، على صعيد داخلي قاري، وعلى صعيد عالمي، حيث يرى البعض ان اليورو سيكون منافساً جدياً للدولار، وانه قد يصبح عملة احتياط الى جانب هذا الاخير، فإن ذلك قد لا يعني بالضرورة تغييراً في الموقع السياسي لأوروبا في العالم ما ظل ذلك الاشكال السيادي قائماً.