للمرة الألف، نهرع لمشاهدة تفسير جديد او قديم لسيرة ومسيرة عبدالناصر وسماع صوته بلا ملل نتابع بضغف متجدد، احداثاً حفظناها عن ظهر قلب - وشاركنا فيها بشكل ما - من تفاصيل سيرته واحداث فترته ومقاطع خطبه، ومع ذلك يحدو الروح امل ان نلمح ما يكون قد غاب علينا. شاقني ان مس المخرج انور القوادري في ما مس لمحة شديدة التضمين والذكاء، كيف كان انور السادات موجوداً دائماً وغير موجود. موجود كظل لعبدالناصر فيما كانت الاحداث والازمات الخاصة والعامة لثورة 1954 ومترتباتها الدولية والعداوات والحقد الذي اثارته تكاد تطيحه مع زملائه، وأنور السادات محايد حياداً عبقرياً - لا تمسه الاحداث الخارجية ولا ازمات السلطة - لا يتورط ولا يدلي بتصريح في اشد اللحظات تفجراً وأكثر اجتماعات مجلس قيادة الثورة توتراً كمثل مسجل معدني بارد يرصد ولا ينطق حرفاً. انور السادات ونكيتا خرتشوف فيما ذهبت الشدة المتواترة بصلابة بعض اعضاء الضباط الاحرار ومجلس قيادة الثورة فانتهى دور بعضهم وتنحى بعضهم الآخر، وعبدالناصر صامد حتى الموت، بقي انور السادات يزاول كخيال.. كاللاحقيقة تعلق انور السادات بحواف الاحداث، وفي قلب اشد الاحداث تحققاً في حياة الشعوب العربية، لا متورط، محايد حياد نصل منغلق على نفسه. وكانت اهم التضمينات التي عرض لها الفيلم بقوة وبلا ادعاء مع ذلك - قي رأى - للمحتوى الهادئ والجيد معا للدور الذي "لعبه" انور السادات ولم يقم بدور على الاطلاق، الا بقدر ما كان "يتواجد" من الوجود والوجد في السلطة معا صامت - غائب - حاضر في اللحظات المناسبة وغير المناسبة حائم حول عبدالناصر في كل لحظة، وبين يديه حتى لحظة ان لفظ عبدالناصر آخر انفاسه. أوراء سلوك انور السادات امر يحتاج ان يقيض له التفسير والتحليل بعد؟ المهم ان انور السادات الحاضر في كل لحظة، الغائب الصامت اللامتورط في امر، اللامتفوه بكلمة لم يرث بعدم التورط سلطة اهم وأقدم وأقوى دولة عربية بل افتتح انور السادات السد العالي ونحت صورته على نصب السد العالي بدل صورة عبدالناصر، الذي توفي قبل افتتاح السد بأيام، كما فعل ورثة السلطة من قبله منذ آلاف السنين، وفي كل زمان، فلم يبق من وجه عبدالناصر سوى ذقن وأنف. ثمة قياس بين أنور السادات ونكيتا خرتشوف من حيث الدور وأسلوب الوصول الى السلطة. كان خرتشوف معاصراً بصورة شبه كاملة، رافق تطورات وسياسات ستالين العنيفة منذ البداية، متوافقاً اما بالصمت او التواطؤ، وقد عصف ستالين بمن حوله وما بين يديه، وبقي نكينتا خرتشوف محتمياً بالظل لا يصرح ولا يغالط ولا ينتقد او يدين، على رغم انه لم يكن متفقاً مع سياسة ستالين كما تكشف في ما بعد - حتى ورث سكرتارية الحزب الشيوعي وحكومة الاتحاد السوفياتي، احد اقوى سلطتين في العالم وقتها. من الملاحظات التي قد تعن لبعض من شاهد احدث فيلم عن عبدالناصر كيف كانت علاقة الضباط الاحرار وأعضاء مجلس الثورة علاقات اولية شبه عشيرية، ما قد يصدم من به ولع بالمقارنة بين زعمائنا وساستنا وغيرهم. فعلى رغم تقابلها مع رسميات وسفسطة وانضباط الخطاب السياسي المعاصر في طقوس التعامل المبرمج المتلفز يشوقني كم كانت تلقائية ومؤثرة علاقة الضباط الاحرار في ما بينهم من عدم انضباطها في الرسميات، وقواعد وأدبيات السياسة والحكم. فكم كانت تلك العلاقات تصدر في التعامل الشخصي والرسمي عن علاقات اولية وقرابية وعلاقات جوار. وإذ كان الضباط الاحرار وأعضاء مجلس الثورة يضعون السياسات الاقتصادية كما ينفذون الخطط العسكرية بأسلوب وعلى غرار ما درجوا على التعامل به في ما بينهم، يتبادلون المجاملات والتآذر الشخصي بود الصداقات، او ينتقدون ما فشلوا في تحقيقه في ما يشبه العتاب وعشم العلاقات الأولية فلم لا؟ الم يكونوا حقاً اصدقاء تجمعهم مدن وقرى واحدة او متجاورة وزمالة دراسة طويلة وحلم وهمّ من الهم وليس الوهم متوحد واحد؟ ان اشد ما يؤثر بي دائماً اذ اتابع احداث تلك الفترة من حياة وكفاح العالم العربي كيف كنا طوباويين ومثاليين ورومانسيين. ولا بأس فان نحن حكمنا علينا بأثر رجعي - بدونا سذجاً. وأقول: "ماذا في ذلك؟ ولم لا؟" فلماذا الحكم على الماضي بمعايير حاضر متواقح على المعرفة؟ فان كان الحاضر شديد الضوضاء فان الماضي اما يبقى خافت الصوت باهت الصورة او على رواء، ليس له، لأن الحنين يسقط على الماضي ما لم يكن له ولا فيه. وازعم انه بعد كل شيء يبقى الماضي حياً. فالماضي لنا ولن يأخذه منا احد سوى حاضر يتطاول عليه مدعياً معرفة كل شيء لأن المعرفة التي يدعيها الحاضر ليست فوق وبعد معارف الماضي السابقة كلها، بل تجب معارف وعلوم الماضي ونظرياته جميعاً والحكم بأثر رجعي على الماضي يظلم الاثنين معاً. التقدم والانكسار: اذ لم يبرح المخرجون لا يفرقون بين شخصية عبدالناصر المأسوية وفترة حكمه الدامية، فلعله لم يكن وليس بعد وارداً اكثر مما كنا وما برحنا غير قادرين على سواه بشروطنا الذاتية والموضوعية. ويخطئ اشد الخطأ في الوصول الى نتيجة من يفصل واحدهما. ولعل ذلك ما يفعله البعض في الحكم على التجربة الاشتراكية بشروطها الموضوعية بلا حساب للشروط الذاتية. ان كان شيئاً لا يتم بشروطه الداخلية ولا يحدث حدث مهم محرك للتاريخ بمر الزمان وحده والا فلا كان لقانون الجدل معنى فان التجارب القومية في الستينات، وسيرة عبدالناصر مثلها كمثل التجربة الاشتراكية، بما في ذلك الاقتصاد المخطط مركزياً في المحاولات المتفرعة للاشتراكية في الوطن العربي وفي غيره، ما كان لها ان تنجح او تفشل بالعوامل الداخلية وحدها. فلا يحكمن بعضنا على سيرة عبدالناصر بانتصارات وهزائم منيت بها ولا على التجربة الاشتراكية عشية سقوط حائط برلين بالستالينية، ولا بتيبس ممارسات الديموقراطية المركزية ولا بالدولة البوليسية ولا بتكريس الاقتصاد الحربي على حساب السلع الاستهلاكية وحدها. لو قلبنا الوضع لوجدنا ان الشروط الذاتية غدت منذ الثلاثينات - وأزعم ان تحديداً منذ معاهدة فرساي بعد الحرب العالمية الأولى - اقوى وأشد شراسة حتى لم يعد ثمة سبيل ان تغالب الشروط الداخلية الشروط الخارجية طويلاً فتغلبها لصالح التوزيع الاشتراكي، ولا الكفاح ضد الاستعمار في حركات الاستقلال الاقتصادي الوطني ولا في حروب التحرير المسلحة في كل مكان. قد يتأتى عن تبصر تعالق وتبادل الاعتماد بين طواقم الشرطيين بعض من التفسير لما بقيت عليه تلك الفترة من التباس اذ تثير الاحكام المستقطبة احياناً والاستمثال الحزين احياناً اخرى. اكان الاستقطاب والاستمثال اللذان تصعب مصالحتهما وراء مأسوية شخصية وسيرة وملحمة احداث فترة عبدالناصر اذن؟ اكمثل ملاحم الابطال الاميركيين اللاتتين، زباتا وغيفارا كانت ملحمية عبدالناصر؟ لم يمر على عبدالناصر سوى ثلاثين عاماً لكنه يبدو، مع ذلك، كأنه من تلك الازمنة السحيقة لشخصيات خرافية واحداث اسطورية تنتمي الى عصر الاماني والبطولات العبقرية فلا تشبهنا نحن معاصريها ولا نشبهها، وقد حوصرنا بيأس الشروط الذاتية والموضوعية. مما نحت في جدران صلابتنا وقدرتنا على الأمل فينا وفي اي شيء وكل شيء. وان اجدني مرغمة في كل مرة ابكي في الظلام مع نهاية الفيلم غدوت لا اقاوم البكاء ولا يحرجني ان اتبادل وجاري زميل كفاح ايام قديمة المناديل لنهرع خارج قاعة العرض ولا نجد ما نقوله لبعضنا في الطريق قبل ان نفترق. 1 - عرض بقاعة بروناي في كلية الدراسات الآسيوية والافريقية في جامعة لندن، بمبادرة الجالية السورية فيلم عبدالناصر للمخرج انور القوادري. ولأن عبدالناصر انسان شديد الحضور وكما يصعب نفسياً على الابن قبول زوج الام، يصعب على المشاهد قبول بديل مادي او صوتي لعبدالناصر، إما تحزباً للماضي الجميل أو من قلة انصاف. على ان خالد صوان الذي مثل عبدالناصر وحضر والمخرج العرض مؤثر بتواضع اللامدعى، جيد الحضور مقنع بصورة لافتة.