مشاهدو الصالة، ممن عرفوا جمال عبدالناصر في أيامه، لم يعجبهم تمثيل خالد الصاوي لشخصه. حتى أن بعضهم لم يجد مشهد تطابق واحد بين الزعيم والممثل على رغم مما أشيع عن الشبه بين الرجلين. عينا الممثل لا توصلان بحال الى نظرة جمال عبدالناصر، وكذلك شفتاه، حين يتكلم، تبدوان كأنهما تُنقصان من الانسجام والجاذبية التي اتسم بها كل ظهور لجمال عبدالناصر. حركات اليدين أيضاً، والمشية، وتحيةالجماهير، لم يستطع التمثيل، أو التقليد، أن ينقل شيئاً من حرارتها. الشبه الذي تواتر الكلام عنه كان أكثر من خارجي براني إذ كانت تفضح سَمْته العام كل حركة وكل كلمة. أي أن المشاهدين وجدوا أنفسهم، فيما هم يتابعون ما يفترض أن يكون حلول شخص في شخص، كأنهم يحظون بالتنافر بدلاً من التطابق والتماهي. وما زاد في نفرتهم عدم قدرة الفيلم على إضفاء ممثله أياً من عناصر الكاريزما الطاغية التي كانت لناصر. بعضهم قال، في أثناء ما كنا خارجين من الصالة، إن ما شاهده هو عبدالناصر مسحوبة منه شخصيته وجاذبيته، هكذا مثلما تُسحب من الغذاء فيتاميناته. وقد اعتقد أنور قوادري مخرج الفيلم أنه يمكن اعادة خلق شخصيته انطلاقاً من رصف الصفات على هيكل خال. كان ناصر كثير التدخين، إذن فلنبق السيجارة بين اصبعيه وفمه. كان قد بكى إثر هزيمة حزيران يونيو 1967، إذن فلنُبكه هنا. هكذا كانت نظارته الشمسية، فليرتد إذن واحدة مثلها. لكن ذلك كله لم يعدُ أن يكون اكسسواراً خارجياً ما دام ان عناصر الشخصية، التي لا يكون الشكل الخارجي إلا أداتها للظهور، لم تلق أي اهتمام من قبل صانعي الفيلم ولم يجر الانتباه اليها. الجسم الذي عُمل على إظهاره عريضاً في الجزء الثاني من الفيلم، لم يفلح في اعطاء الانطباع ب"الطلة" التي كانت للرجل، والأمر نفسه ينطبق على العينين اللتين لم تفلحا في تأدية نظرته. كان ينبغي لصانعي الفيلم أن يتذكروا أن بين ما صنع شعبية ناصر وجماهيريته هي هذه الجاذبية النادرة التي اشتغل مشتغلون عليها، ولا بد، لتتضاعف قوة تأثيرها. من ذلك مثلاً صور ناصر التي من فور انتشارها بدت كأنها صور خلوده. في إحداها ظهر مرتدياً نظارته اياها، السوداء، وخلفه الأفق والمتشكل من غيوم متهيئة مزدحمة في نهايته. من صوره أيضاً وقوفه محيياً الجماهير، بيديه المرفوعتين فبدا كأنه يؤدي مشهد انتصار حقيقي. ومنها أيضاً لقطة من أدائه خطاب تنحيه، حين لم تفلح الهزيمة في التقليل من شعبيته. كان ناصر، في الطبيعة وفي الصناعة، متميزاً بذلك القدر الفائض من قوة الظهور إذ لم تكن صوره الموصوفة أعلاه إلا مشاهد عن نفسه كما أحب لها أن تكون. في فيلم أنور قوادري لم يجر الاهتمام بشيء من ذلك. صفوف الجماهير التي وقفت تستمع الى خطبتيه، اللتين تعرّض لمحاولة اغتيال في إحداهما، بدت كأنها تلاميذ مدارس تتهيأ لدخول الصفوف. وهو نفسه، جمال عبدالناصر، كاد أن يكون مضحكاً، وما زلنا في الفيلم، فيما هو ينهض من تحت الميكروفون، بعيد انطلاق الرصاص عليه، ليزيد من حدة حماسته أضعافاً. ما لم يفلح الفيلم في ابرازه هو طبيعة الشخصية النادرة، أو وهجها، هذان اللذان لم يتكررا مع زعيم آخر في العالم العربي بعد رحيله. كان أحرى بقوادري، المخرج، أن يسعى الى بلوغ هذا الشيء، لا في ظهور ناصر وحده وفي أدائه، بل في كل ما يحيط به من جنود وقادة وجماهير، كما في كل حركة له حتى في نطاقه البيتي أو الشخصي. بدلاً من أن يفعل ما كان ينبغي أن يفعله، اختار قوادري أن يكتفي بالهيّن السهل فجاء، مثلاً، لكل من شخصياته، بممثل ظنه يشابهه في شكله وهيئته. على الفور عرف مشاهدو الصالة أن هذا الداكن السمرة هو أنور السادات، وأن النحيل رفيق ناصر الذي يظهر الى جانبه ابتداء من مشاهد الفيلم الأولى هو عبدالحكيم عامر. زوجة عبدالناصر أيضاً جيء، بالممثلة عبلة كامل بعد أن ظُنَّ بأن شبهاً ما يجمع بين المرأتين. والخيار الهين السهل هذا، ظنه المخرج كافياً لتفصيل كل ما يتعلق بالشخصيات، حيث رأى أن ما يجب أن ينضاف على أشكالها، مواقفها، المعروفة أصلاً، المستخرجة من كلامها. لم يظهر في الفيلم أثر لأي درامية أو لأي عامل شخصي لدى أي من الشخصيات باستثناء الدور الذي أداه هشام سليم ممثلاً شخصية عبدالحكيم عامر. جرى الاكتفاء إذن بجمع "الضباط الأحرار" حول الطاولة، في اجتماعاتهم الأولى تلك، مختصَرَةً بهم تيارات المناهضة والمعارضة جميعها في مصر. كما أنهم بدوا طيبي القلب، شباناً من دون تجربة، الى درجة أننا، في الفيلم، كدنا نعتقد أن شرطياً ما تابعاً للملك سيأتي اليهم في تلك الغرفة ويسوقهم أمامه. أصاب الضباط الأحرار ما أصاب شخصية ناصر في الفيلم من عدم تمكن مخرجه من إضفاء أي معنى شخصي أو سياسي لأي منهم. كأن هؤلاء الضباط قُدِّموا الى مشاهديهم تقديماً مدرسياً لطلاب الصفوف الدنيا. لقد اقتلعت منهم النوازع والرغبات، أما عبدالحكيم عامر فبدا، في تلك الحفلة الساهرة التي تعرَّف فيها على برلنتي عبدالحميد، غريباً مستوحشاً بين الساهرين وعديم المعرفة بالسهر، كأن تلك هي سهرته الأولى. الضباط الأحرار جرى التمثيل عليهم بالكلام الصادر عنهم وبالحركات القليلة التي درسها المخرج كثيراً لتدل على الوظيفة والموقف السياسيين لكل من أولئك الرجال. من قبيل حرص المخرج ذاك مثلاً إبقاء أنور السادات صامتاً أكثر الأوقات، وخصوصاً في لقطة خروجه من غرفة ناصر المسجّى على سريره ميتاً، لأن الحيرة استبدت به بالمخرج إزاء التشخيص السياسي الذي يجب أن يعطيه للسادات. هذا حصل بالتدبير نفسه مع الضباط الأحرار جميعهم، كما مع القوى السياسية الأخرى باستثناء الملك فاروق وجماعة "الأخوان المسلمين" الذين أعطيت لهم الصفات الشائعة المتداولة في عصر "ثورة يوليو". الموقف من الإنكليز كان أكثر تلوّناً، وكذلك الموقف من الأميركان الذين لم ترتفع نبرة الكلام عنهم لتوازي الأسباب التي دفعت بناصر وجماعته الى التطلّع نحو المعسكر الاشتراكي. جمال بد الناصر ومعه الضباط الأحرار لم تصبح حقبتهم ماضياً وتاريخاً بعد حتى يمكن نقلهم الى السينما نقلاً حراً. في أثناء ما كان يُنتج الفيلم كنا نقرأ في الصحف أخبار الاحتجاجات التي تأتي من عائلات الضباط مستنكرة نقل رجالهم بصورهم الموصوفة. ذلك استدعى من أنور قوادري العمل في حقل من الاحراجات كان تهيأ له أصلاً وداراه بإخراس التناقضات الناشئة بين الضباط. غاية القوادري استعادة تلك الحقبة، كما جرت فعلاً، محكومة سلفاً بالتقصير والنقصان. كان، في قراءته وقائع تلك الحقبة كما هي مكتوبة ومقروءة أصلاً، مضطراً الى أن يقصي جانباً كل مجال للتأليف والتخيّل واعادة القراءة. ما جرى في الإذاعات، ها هو يجري بحرفيته في الفيلم. وهذا النقل يحدث من دون أن تفعل السينما فعلها، كأن تكون، كما ينبغي لها، أكثر إبهاراً وتماسكاً وانسجاماً من الواقع. ذاك يعني أن جمال عبدالناصر هو، في خيال الباقين من مؤيديه ومناصريه، أكثر ملحمية من الفيلم الذي وُصف بملحميته.