تداخلت في العام الماضي الشؤون الداخلية السورية بالتطورات الخارجية وخصوصاً الاقليمية منها وانعكاساتها الدولية. اذ بدأ العام 1998 باعلان الرئيس حافظ الاسد في شباط فبراير "اعفاء" شقيقه الدكتور رفعت الاسد من منصب نائب الرئيس، وانتهى بحصول "اعنف" مظاهرة تشهدها شوارع دمشق منذ عقود... احتجاجاً على "العدوان الوحشي على شعب العراق". وبين هذين الحدثين حصلت في منتصف العام تطورات عدة، بينها احالة رئيس الاركان العماد اول حكمت الشهابي على "التقاعد لبلوغه السن القانوني"، و"عزل" مدير ادارة المخابرات العامة اللواء بشير النجار لپ"ارتكابه تجاوزات". لكن الحدث الاهم خارجياً كان عدم حصول صدام عسكري مع تركيا بعد الازمة التي حصلت بين الطرفين في بداية تشرين الاول اكتوبر اثر "التهديدات والتصريحات المفاجئة" التي اطلقها المسؤولون الاتراك وحشد المؤسسة العسكرية اكثر من عشرة آلاف جندي على الحدود وطرحهم قائمة من الشروط لأي حل. ولم تكن تلك الازمة الوحيدة في علاقات دمشقوانقرة، بل ان سجل العلاقات الثنائية حافل بفترات التوتر. كان سابقاً بسبب المياه وقيام تركيا بقطع تدفق المياه في نهر الفرات على السوريين، ثم تحولت المشكلة الى اتهام الاتراك لسورية بدعم زعيم "حزب العمال الكردستاني" عبدالله اوجلان ووجود معسكرات للحزب في الاراضي السورية. وحصلت في كل عام من الاعوام السابقة، ازمة بين البلدين، الى حد صار دفء العلاقة هو الشذوذ عن القاعدة. وحصل هذا "الشذوذ" في النصف الثاني من العام 1996 عندما كلف رئيس حزب "الرفاه" الاسلامي السابق نجم الدين اربكان بتشكيل حكومة وحديثه عن "ازالة الحدود" بين البلدين. لكن المكسب الوحيد الذي حصل بين الطرفين كان استغلال رئاسة اربكان لنزع فتيل ازمة كان توافق على اشعالها في نيسان ابريل 1996 حزبا "الطريق القويم" و"الوطن الام" بزعامة مسعود يلماظ وتانسو تشيلر. وماتلا ذلك من انفجارات خلال شهر ايار مايو اتُهمت بها جهات تركية مدعومة من "أجهزة الاستخبارات التركية" ميت بعد توقيع اتفاق التعاون العسكري التركي - الاسرائىلي في شباط فبراير. استطراداً، ان العام 1996 شهد ازمة في حدود سورية الجنوبية كادت ان تؤدي الى حرب. وانتظر الجميع الى نهاية العام 1997 كي تتضح الصورة عندما تبين ان العميل السري ايهود غيل كان وراءها عبر تقديمه معلومات الى حكومته تدفع الى الاعتقاد بأن تحريك سورية الفرقة 14 في آب اغسطس 1996 باتجاه مرتفعات الجولان، جاء بهدف شن هجوم مباغت لاعادة قمة جبل الشيخ. والاتفاق العسكري بين "الحليفين" التركي والاسرائىلي كان - حسب اعتقاد المسؤولين السوريين - الوقود الاساسي لأزمة العام 1998، ذلك ان المسؤولين الاتراك اتخذوا من جملة من التطورات الداخلية والاقليمية فرصة لايصال الأزمة مع سورية الى نهايتها وصولاً للحصول على تنازلات. ويعتقد محللون بأن هذه التطورات هي: داخلية، تتعلق بالصراع بين المؤسستين السياسية والعسكرية ومشاكل الفساد التي ظهرت وطالت مسؤولين على اعلى المستويات. واقليمية، تتعلق بتوقيع اتفاق واشنطن للسلام بين زعيمي "الاتحاد الوطني الكردستاني" جلال طالباني و"الحزب الديمقراطي الكردستاني" مسعود بارزاني برعاية اميركية في ايلول سبتمبر، وهو الشهر الذي شهد زيارة رئيس الوزراء التركي السابق مسعود يلماظ "العلماني" الى اسرائىل وحديث حليفه "الاصولي" ! رئيس الوزراء الاسرائىلي بنيامين نتانياهو عن "نظام امني جديد". والتطور الاقليمي الآخر، كان انشغال "الحليف الاستراتيجي" لسورية بالتصعيد على حدودها مع افغانستان والصراع بين حركة "طالبان" السنية مع القوى الشيعية المدعومة من ايران وهي رئيسة منظمة المؤتمر الاسلامي. شروط تركية كما اختار الاتراك لحظة هي الانسب لهم والاسوأ عربياً، تمثلت في ازدياد الضعف والتنسيق بين الدول العربية وانشغال كل دولة بملفات تبدو متناقضة مع ملفات الدول الاخرى. لذلك حشد الاتراك جنودهم على حدود سورية واغلقوا قنوات الحوار، واعلنوا شروطهم وهي: - التوقف فورا عن توفير معسكرات التدريب والملاذ الآمن للانفصاليين الأكراد. - تسليم عبدالله أوجلان أو طرده من سورية. - إغلاق المكاتب والمعسكرات وطرد العناصر المقيمة من الحزب في سورية إلى الخارج، والتوقف عن تزويدهم بالسلاح والتسهيلات اللوجستية. - التوقف عن منحهم وثائق سفر وسحب تلك التي بحوزتهم. - الحيلولة دون السماح له بالتسلل إلى الأراضي التركية عبر الحدود المشتركة أو من خلال منطقة شمال العراق. - التوقف عن الأعمال الدعائية المعادية لأنقرة. - التوقف عن الدعاية للأعمال الارهابية التي يشنها الأكراد ضد تركيا. - عدم تقديم الدعم لها عن طريق طرف ثالث والتعاون بين البلدين في ميدان مكافحة الارهاب وتبادل المعلومات في هذا الشأن. - التوقف عن التحريض ضد تركيا في العالمين العربي والاسلامي. ذلك ان اسباب الانزعاج التركي من سورية، هو حشدها دعماً عربياً واسلامياً ضد "التحالف العسكري" بين انقرة وتل ابيب الى حد وصف عربياً واسلامياً بپ"المشبوه" و"التآمري" و"الخطر" و"المهدد للامن القومي والاسلامي"، كان اخرها صدور بيان خاص بعد اجتماع مجلس جامعة الدول العربية على المستوى الوزاري قبل اسبوعين من التصعيد، لادانة هذا "الحلف" وتجديد الدعوة لتركيا كي "تعيد النظر فيه" انطلاقاً من رفض "سياسة الاحلاف والمحاور التي تهدد استقرار المنطقة". ورغم اطلاق هذه الشروط حرص المسؤولون السوريون على "عدم تحريك اي ساكن". اذ لم يصدر اي تعليق الاّ بعد بضعة ايام وكان ان دمشق "تتابع باهتمام التصريحات التركية الاستفزازية". وبعد ذلك بايام صدر بيان رسمي يتمسك بپ"الحل الديبلوماسي" ويدعو الى "الحوار لحل كل القضايا العالقة". ونتيجة للوساطة التي قام بها اساساً الرئيس المصري حسني مبارك بعد الحصول على دعم سعودي باعتبار مصر رئيسة القمة العربية، والوساطة الايرانية التي قام بها وزير الخارجية كمال خرازي بتكليف من الرئيس محمد خاتمي رئيس منظمة المؤتمر الاسلامي، جلس الطرفان حول طاولة المفاوضات في مدينة اضنا التركية في 20 تشرين الاول. وبعد يومين من المفاوضات وقع رئيس شعبة الامن السياسي السوري اللواء عدنان بدر حسن والمستشار في الخارجية التركية ايغور زيال السفير التركي السابق في دمشق اتفاقاً امنياً نزع فتيل الازمة. وجاء في الاتفاق: "اوجلان ليس في سورية حالياً، ولن يسمح له بأي شكل من الاشكال بدخول سورية. لن يسمح لعناصر حزب العمال الكردستاني بدخول سورية. ان مخيمات حزب العمال الكردستاني لا تعمل في الوقت الحاضر، ولن يسمح بأي شكل من الاشكال لهذه المخيمات بالعمل. اوقف كثيرون من اعضاء حزب العمال الكردستاني واحيلوا إلى المحاكمة. وقد اعدت لوائح باسمائهم، وقدمت سورية هذه اللوائح الى الجانب التركي". كما اتفق على تشغيل "خط ساخن" بين اللواء بدر حسن ومدير الجيش الثاني التركي الجنرال ايطاش يالمان وتعيين ضابطين امنيين في السفارة التركية في دمشق. واستطاع الجانب السوري عدم ادخال موضوع لواء اسكندرون في الاتفاق باعتبار انه "حق تاريخي لايمكن لأحد التنازل عنه"، اضافة الى تحقيق مكسب ثان نص على عدم "تهديد اي طرف امن الطرف الاخر"، ووعد من الجنرال يالمان ب "فتح صفحة جديدة" في العلاقات بين الطرفين، فهمها السوريون على اساس تطوير العلاقات الاقتصادية والتوصل الى "اتفاق نهائي لقسمة عادلة" لمياه نهر الفرات الذي تتشاطأ عليه الدولتان والعراق. وكان مسؤول سوري كبير اوضح ل "الحياة" ان الاتفاق "ليس جديداً ووقعنا مثله عشرات المرات" وانه "لم يتضمن قدوم مفتشين اتراك الى سورية للتأكد من اغلاق معسكرات اوجلان" وعدم الاعتراف بوجود سابق لمعسكرات اوجلان في البلاد ولا "التعهد بتسليم معتقلي الحزب لتركيا لان هؤلاء سوريون" على عكس تفسير الاتراك للاتفاق. وهذا الاختلاف في التفسير اقتضى لقاءين للجنة الامنية السورية - التركية في نهاية تشرين الاول وبداية تشرين الثاني نوفمبر، للوصول الى "صيغة نهائية للاتفاق" بعد هدوء هدير ادوات الحرب. لحسن حظ السوريين ان الاتراك انشغلوا بعد ذلك بمشكلة سطوع نجم اوجلان في ايطاليا ووسط اوروبا التي رفضت قبول تركيا عضواً في اتحادها الكبير. وكتب صحافيون اتراك ما مفاده: "يجب ان يذهب يلماز الى المسؤولين السوريين ويقبل ايديهم كي يعيدوا اوجلان الى سورية". لأن ما اعتقدته انقرة حلاً كان انتقال المشكلة الكردية فيها الى مستوى دولي، خصوصاً بعد اعلان روما ان زعيم حزب العمال حر طليق ولن يحاكم. ايقاع السلام بطيء مقابل هذه التطورات السريعة، فإن ايقاع عملية السلام على مسارها السوري - الاسرائىلي كان بطيئاً. حاول وزير الخارجية فاروق الشرع تسريعه عبر محادثاته مع نظيرته الاميركية مادلين اولبرايت في أيار وتشرين الاول، وتلقى "وعداً" بأن تركز واشنطن على هذا المسار بعد توقيع اتفاق اعادة الانتشار في الضفة الغربية. وقع نتانياهو ورئيس السلطة الوطنية الفلسطينية ياسر عرفات اتفاق واي ريفر في تشرين الاول، لكن العام انتهى ولم يحرك الاميركيون ساكناً على المسار السوري. هذا يشكل مع اسباب اخرى، مفتاحاً لحدثين استضافتهما دمشق قبل ان تودع العام 1998. الاول كان عقد المؤتمر الوطني الفلسطيني حضور اكثر من 350 شخصية اعتراضاً على انعقاد مؤتمر اقرار الغاء مواد في الميثاق الوطني الفلسطيني في حضور الرئيس بيل كلنتون في 14 كانون الاول، مما اعتبره الاميركيون "اشارة قوية ضد السياسة الاميركية". والاشارة الثانية، كانت اقوى وتمثلت في اندلاع اعنف مظاهرة ضد السياسة الاميركية والبريطانية في العاصمة السورية، وذلك عندما دهم المتظاهرون منزل السفير الاميركي وحطموا اثاثه اضافة الى اقتحام مبنى السفارة وتحطيم بعض الممتلكات الاميركية في دمشق.