يجلس الشيخ أبو مثقال في بيت من الشعر مصنوع من صوف الأغنام، وقد نصب بيته في ساحة قصره الباذخ الجميل، ويضع أمامه "دلال" القهوة على موقد النار المشتعل بجمر حطب الأشجار الصحراوية "الشيح والغضا والرتم" وبجواره "محماسة" القهوة، و"المهباش" الذي تدق فيه القهوة بعد تحميصها، وفوق رأسه كيس جميل مصنوع من صوف الأغنام المصبوغ بألوان زاهية ومحاط بالخرز الملون. وهو يفضل الجلوس مع ضيوفه المقربين في بيت الشعر على قصره الفخم المزود بأحدث التجهيزات بما في ذلك التلفون الخليوي وطبق "الستالايت" الذي يلتقط معظم المحطات التلفزيونية العربية والعالمية، إنه يعتقد أن تحضير القهوة على مواقد الغاز والكهرباء يفسدها، ويرى أن القهوة ليست مجرد شراب يقدّم وأنها لا قيمة لها بدون عمليات تحضيرها التقليدية وباستخدام أدواتها الخاصة بها منذ مئات السنين، فالقهوة ليست مجرد مشروب ساخن، ولكنها تعبير عن منظومة مثاليات وقيم اجتماعية كما أنها تتضمن طقوساً تلخص النظام الاجتماعي والسلوكي. وبرغم التطور السريع والحديث الذي حصل في الأردن فإن عادات اجتماعية كثيرة ما زالت قائمة ومؤثرة، وما زالت القهوة السادة في الأردن يتم تحضيرها وتناولها ضمن منظومة من العادات والقيم الاجتماعية ولها دلالات رمزية في الصلح والزواج والعلاقات والروابط الاجتماعية. وتمارس عادات تحضير القهوة وتقديمها على نطاق واسع في المدن والأرياف والبوادي، وتؤدي وظائف اجتماعية وتثير مشاعر وعواطف مختلفة يرقى بعضها الى درجة القداسة، وترتبط بمواقف وأوضاع اجتماعية كثيرة كالكرم والالتزام الشخصي والجماعي والتفاوض والصلح والخطبة والزواج وسائر شؤون الجماعات والقبائل. وتسمى قهوة البن عادة بالقهوة العربية نسبة الى العرب الذين عرفوها قبل تسعة قرون في اليمن ثم انتقلت زراعتها من هناك الى الهند وأميركا الجنوبية. ويعتبر البن العدني واليمني من أفضل أصناف البن، ولكن البرازيل تنتج اليوم أكثر من ثلثي الإنتاج العالمي للبن برغم أن زراعتها ابتدأت هناك في القرن الثامن عشر. وقد عني بهذه الظاهرة "القهوة والمجتمع" أكثر من كاتب وباحث مثل أحمد عويدي العبادي عضو مجلس النواب في كتابه "من القيم والآداب البدوية" والقاضي محمد أبو حسان في مقال له في مجلة الفنون الشعبية بعنوان "القهوة وأثرها في حياة البدو" ولكن أهم هذه الدراسات في دراسة للباحث أحمد الربابعة أستاذ علم الاجتماع ورئيس جامعة أربد الذي أعد دراسة أكاديمية نشرت في مجلة الجامعة الأردنية "دراسات". تبدأ طقوس القهوة في عمليات الإعداد والتحضير كجمع الحطب وتكديسه ويتم إشعال النار عادة في "المضافة" وتشير كميات الرماد وبقايا القهوة "الحثل" الى الكرم ويتفاخر الناس بها منذ قديم الأزمان، كما قالت الخنساء في وصف كرم أخيها "عظيم الرماد" والوصف إياه في الحديث الشريف حين وصف امرأة كرم زوجها "حديث أم زرع في البخاري ومسلم". وما زال كثير من الناس يفضلون الحطب على وسائل الطبخ الحديثة ويعتقدون أن حطب الغضا والشيح يعطي القهوة رائحة وطعماً أفضل، وكان يعمل في بيوت زعماء البدو رجال متفرغون للقهوة مثل "الجلال" الذي يجمع الحطب و"الفداوي" الذي يعد القهوة ويجهزها. وللبدو في تحضير القهوة ومجالسها أشعار كثيرة أكثرها تداولاً اشعار الشاعر الشمري راكان بن حثلين الذي يقول: ياما حلا الفنجان مع راحة البال / في مجلس ما فيه نفس ثقيلة هذا ولد عم أو هذا ولد خال / أو هذا رفيق ما ندور بديله وفي وصف عملية التحضير يقول الشيخ فايز الصقر: لما تغدا صفرا أو حمرا وصايف الكيف بيطار دقة بنجر الياضج العزم هل الكار ثاري الربع دعر مجدول بالحيل اللي انفتق ما يصلحه كل بيطار وتتخلل معظم المراحل التي تمر بها عملية تصنيع القهوة طائفة من التحذيرات والتنبيهات وردت في الشعر الشعبي، وهي تدل ظاهرياً على اهتمام باتقان صنع القهوة لتسر الشاربين وترضي الأذواق، لكنها تشير ضمنياً الى حرص المجتمع القبلي على ترسيخ اجراءاته وتدابيره الضبطية وتوجيه سلوك أفراده. ومن قواعد الضيافة وواجب المضيف في تقديم القهوة أن يتذوق القهوة بنفسه قبل تقديمها للضيوف، وأن تقدم من اليمين الى اليسار "حتى لو كان على اليسار أبو زيد"، وقال الشاعر العربي الجاهلي عمرو بن كلثوم: صدت الكاس عنا أم عمرو / وكان الكاس مجراه اليمينا ولكن إذا كان في المجلس ضيف أو شيخ فإن القهوة تقدم له أولاً ثم يتابع المضيف ابتداءً من يمين الضيف، ويجب أن يقدم للضيف ثلاثة فناجين من القهوة وأن تكون الكمية قليلة تغطي قعر الفنجان، فالقهوة "للسن وليس للبطن" ويرمز الفنجان الأول للضيافة، والثاني للاستمتاع والثالث للمشاركة مع القبيلة والتضامن معها "الضيف والكيف والسيف". ويجب أن يصب المضيف القهوة بيده اليسرى ويقدمها بيده اليمنى مع انحناءة واضحة. ولا ينبغي تجاوز أحد أو تعديه في تقديم القهوة، وإذا تم ذلك فإنها إهانة لا تغتفر إلا إذا كان هذا الذي تجاوزه المضيف هارباً من معركة أو متخلفاً عن القتال أو رافضاً لمساعدة القبيلة أو أحد أفرادها إذا كان قادراً على ذلك. وإذا حضر ضيف بعد شرب القهوة فتقدم له فوراً ثم يجدد عرضها على الجالسين احتراماً للضيف القادم. وينبغي أن تظل القهوة جاهزة لتقديمها للضيوف "والمة" ويكره البدو تقديم القهوة بفنجان مكسور فذلك يحط من شأن الضيف ويجلب النحس. وحددت القواعد السلوكية البدوية قواعد للضيوف يجب أن يلتزموها، فيجب على الضيف أن يستند قبل تناول القهوة إذا كان متكئاً، وآلا يصب القهوة بنفسه، وأن يتناول الفنجان بيده اليمنى وألا يسكب فنجان القهوة على الأرض مهما كانت الأسباب. وهي قواعد تعكس الآداب والإلتزامات الاجتماعية وتعبر عن التزام بالحقوق والواجبات واستعداد للمشاركة والتضامن. ويرى الربايعة أنها تعبر عن مثاليات التفكير الاجتماعي القبلي كإشاعة الأمن والطمأنينة في نفوس الناس، والتكافل والتمسك بالعادات والتقاليد، والكرم والشجاعة واحترام قيادة الشيخ ورأيه والولاء للقبيلة، وإعلان شأن الفروسية. ويحيط البدو القهوة بهالة من الاحترام والتقديس فلا يجوز تخطيها، ويوضع البن في كيس متين جميل "الضبية" يعلق في وسط البيت، وعادة ما يجعل الناس هذه الضبية تحفة جميلة مصنوعة من صوف الأغنام المصبوغة والخرز الملون، ويوضع الحثل في حفرة بعيدة عن مسير الناس والحيوانات، ويحلف بعض الناس بالقهوة تعبيراً عن قدسيتها ومن عادتهم في المجالس القول "وحياة قهوة أجاويد الله" و"حياة الوالمة" وتوصف القهوة ب"الشاذلية" نسبة الى الولي المشهور الشاذلي أحد شيوخ الصوفية. ويعبر البدو عن حزنهم عن موت رجل عظيم بقلب دلال القهوة وامتناعهم عن تحضيرها إشارة الى احترامهم للمتوفى. وعندما تقدم القهوة في مجالس الصلح أو الخطبة يتوقف الضيوف عن شرب القهوة حتى يستجاب طلبهم، ويعبر شربها عن الاتفاق والاستجابة لطلبهم ويسمى هذا المشروب في هذه الحال "فنجان الجاهة" وهناك "فنجان التحدي" وهو يرمز لقتل شخص معين يحدده رئيس القبيلة فإذا أعلن أحد الحاضرين بأنه شرب فنجان فلان فذلك يعني أنه التزم بقتله بناء على تكليف الشيخ، وإذا فشل في مهمته فيعاقب بألا تقدم له القهوة في مجالس الرجال. وللبدو أقوال وأمثال في القهوة تلخص رؤاهم وأفكارهم مثل "القهوة سوداء ولكن ثناياها بيض" أي أن الأعمال والإلتزامات المبنية على القهوة جميلة ومهمة، و"القهوة حاكم لفك المشاكل" وإذا وصف شخص بأنّ "قهوته ما تنشرب" فذلك اشارة الى أخلاقه السيئة وضرورة نبذه في المجتمع. وحدد النظام البدوي محاذير وانحرافات متصلة بالقهوة يجب الامتناع عنها، مثل: عدم تقديم القهوة لشخص إلا لسبب محدد هو هربه من القتال، أو سكب القهوة على الأرض فذلك يعني احتقار القبيلة وتحدي الناس، أو تقديم قهوة "عشراوية" وهي القهوة "البايتة" التي مضى عليها يوم أو يومان، أو تقديم قهوة "مسربة" أي أوشكت على النفاد واختلطت بالحثل، أو شرب القهوة بدون إذن فذلك اعتداء على الحرمت والخصوصيات، أو النزاع في مجلس تدار فيه القهوة فهذا من احتقار الجماعة والمضيف. وهكذا فإن القهوة في المجتمع البدوي والقبلي هي تعبير عن طقوس ورموز للعادات والتقاليد والنظم الاجتماعية والسلوكية، وهي أيضاً فرصة للقاءات الاجتماعية والحوار وتبادل الآراء "مجالس القهوة" كما أنها من وسائل المكافأة والعقاب الاجتماعية ويمكن اعتبارها وسيلة فعالة في تحقيق الاستقرار والتضامن والتكافل الاجتماعي.