استوقفني عنوان مقال في العدد الأخير من مجلة "ذي اميركان بروسبكت" وقرأته فوجدت انه يستحق ان يقدم للقراء، بما تتسع له هذه العجالة لأن المقال الأصلي طويل. كان المقال بعنوان "صراع صموئيل هنتنغتون مع صموئيل هنتنغتون"، ورد فيه كاتبه جاكوب هلبرون على صاحب نظرية "صراع الحضارات" أفضل رد مكتوب حتى الآن. سجل الكاتب على استاذ الحكومة في جامعة هارفارد التالي: في نسخة حملت تاريخ تشرين الأول اكتوبر 1997 من دورية "جورنال أوف ديموكرسي" كتب هنتنغتون يقول: الكومنترن مات، وجاء زمن الديمنترن بمعنى سقوط المنظمة الشيوعية التي كان أسسها لينين وقيام منظمة الديموقراطية الغربية النمط، غير انه في عدد ايلول - تشرين الأول سبتمبر - اكتوبر من مجلة "فورين افيرز" سجل رأياً مناقضاً هو ان القوة الخارجية الاميركية في تراجع، وان السياسة الخارجية تتقاسمها "لوبيات" اثنية يتبع كل منها مصالحه الخاصة، وقال "بدل وضع خطط غير عملية لمغامرات كبيرة في الخارج، يجب على نخب السياسة الخارجية الاميركية وقف جهدها على وضع خطط لخفض الانغماس الاميركي حول العالم بطريقة تحمي المصالح القومية المستقبلية". وسأل الكاتب: من نصدق؟ هنتنغتون الأول أو هنتنغتون الثاني؟ أي هنتنغتون الانفلاشي أو هنتنغتون الانكماشي. يقول الكاتب ان من حق المفكر ان يغير رأيه، إلا ان هنتنغتون على ما يبدو يحمل الرأي ونقيضه في الوقت نفسه، وآخر كتابين له يؤكدان ذلك، فهما "الموجة الثالثة للديموقراطية في أواخر القرن العشرين" الصادر سنة 1991، و"صراع الحضارات" الصادر سنة 1996. وهو في الكتاب الأول يقول ان موجة الديموقراطية غسلت شواطئ العالم، إلا انه في الكتاب الثاني يقول ان الديموقراطية وقف على الحضارات الغربية، وان على الولاياتالمتحدة ان تعتبر الانظمة التسلطية في الشرقين الأقصى والأوسط شيئاً ايجابياً أو طيباً. ويقرر هيلبرون ان "صراع الحضارات" رائع ومثير وغير مقنع، فهو يسقط في النهاية تحت وطأة فرضياته. وربما كان عذر هنتنغتون انه قال منذ البداية، انه ألف كتاباً شعبياً لانصاً في العلوم السياسية، لذلك فالكتاب قد يفهم على اساس ان صاحبه محافظ أو من أنصار نظرية الواقعية الجديدة. ويكرر الكاتب، ربما بوضوح أفضل مما قرأنا حتى الآن، انتقاداً تردد فور صدور مقال "صراع الحضارات" ثم الكتاب الموسع عن الفكرة فهو يقول ان خطأ هنتنغتون الاساسي كان افتراضه ان حضارات الشرق الأوسط والشرق الأقصى حضارات أحادية متكاملة متماسكة، مع ان من الواضح ان ثمة صراعاً داخل كل من هذه الحضارات. ويزيد ان الحضارات الغربية ليست واحدة أيضاً. وأفضل دليل على ذلك سقوط التحالف ضد العراق، فكل بلد غربي سار في طريق مختلف بعد تحرير الكويت، والاتفاق القديم لم يعد قائماً. ولعل أغرب ما في الكتاب "صراع الحضارات" فصله الأخير، ففيه لا يكتفي هنتنغتون بالعودة عن نظريته ان تنشر الولاياتالمتحدة حضارتها حول العالم، بل هو يبدو خائفاً على اميركا نفسها. ويعتبرها محاصرة، ويخاف عليها من غزو الحضارات الأخرى، لذلك يفكر بعقلية الحصار كيف يحمي هذه الحضارة المتقدمة من التأثر بحضارات دونها، أو دنيا. شخصياً، لا أنكر أنني سررت بتشريح أفكار هنتنغتون، أو تقطيعها، بقلم هيلبرون. ولكن ما يهمني أكثر هو التراجع عن فكرة فرض الديموقراطية الاميركية على العالم كله، فهي عندي ليست أقل سوءاً من "تصدير الثورة" الذي عانينا منه عقوداً في غير بلد عربي واسلامي، فنحن مع الاميركيين، كما قال الشاعر، نقنع بالسلامة، منهم ولا "تأخذوا منا ولا تعطونا". يعكس موقفا هنتنغتون ورد هيلبرون عليه جدلاً حامي الوطيس في الساحة الفكرية الاميركية، فهناك انكفاء يقوده المفكرون المحافظون يدعو الى التعامل مع العالم الخارجي عن بعد، ان لم يكن اعتزاله، يقابله تيار ليبرالي يصر على ان واجب الولاياتالمتحدة تصدير نموذجها الديموقراطي الى بقية العالم. ونحن، كعرب، نجد أنفسنا إزاء هذين التيارين عالقين بين الصخرة والمكان القاسي، كما تقول العبارة الانكليزية، فالتيار الانعزالي الاميركي يعتبرنا شعوباً متخلفة دائماً لا أمل بإصلاحها، لأنها في "جيناتها" ضد الديموقراطية، اما التيار الثاني فيريد ان يدمر ما عندنا ليبني لنا ديموقراطية من صنع اميركا، لأنها في رأيه الديموقراطية الوحيدة. وفي حين ان الأفضل لنا ان نبني على ما عندنا ونصلحه ونطوره ونعدله ليلحق بركب الديموقراطية، فإننا قد لا نكون مخيرين في ما يدبّر لنا بين فريق ينظر إلينا كمحمية طبيعية، وفريق آخر لن يرتاح حتى يقطع جذورنا مع ماضينا.