1 - شاء الحظ ان اكتشف، وأنا في نزهة عام 1974، مبنى ولد فيه فرانز كافكا، يقع في الجانب العتيق من براغ. كما دخلت عام 1975 منزل صباه في الزقاق الذهبي بقلعة هراتشاني وزرت مقبرته عام 1983. حصل هذا دون قصد. كنت أنتظر في محطة شليفزكيهو باصاً يقلني كالعادة الى بيت الفنان الذي أسهم في تأسيس معارفي: محمود صبري. كنت في غاية الحزن والقلق جراء تحريض حزب عراقي متنفذ لأجهزة مخابرات تشيكية على طردي من البلاد مع طفلين وزوجة. اشعلت سيجارة وذهبت القي نظرة على مدخل مقبرة اليهود في الجهة المقابلة. قرأت من خلال قضبان البوابات المعدنية لوحة كُتب عليها "هنا مدفون الدكتور فرانز كافكا". دخلت غرفة الحارس وسألت: هل هذا هو نفس كافكا الكاتب؟ - أجل. أين يقع قبره. أشار الى أمام: - 50 متراً. أستطيع رؤيته؟ - ينبغي اعتمار قلنسوة على الرأس. لا قلنسوة عندي. - نحن نعيرك واحدة. غمرني اشمئزاز مبهم وأنا اعتمر القلنسوة السوداء. مشيت بين سياج مرتفع وصفوف قبور تظللها اشجار كثيفة. توقفتُ عند قبر كافكا البسيط والمهمل، تفحصت احجاره المتآكله، وقلت: - اسمع، أنا عراقي من بغداد. اتفق معك. الحياة تافهة ومرعبة. قلت له أشياء أخرى. وبعد أيام التقطت صوراً للقبر، وسألت الحارس: أيزوره أحد؟ - أجل. وفود رسمية؟ - لا. سيدتان من القريبات على الأرجح، تحضران من فيينا في الأعياد، تحملان الى قبره الزهور... لعل احداهن - كما خمنتُ آنذاك - ماريان شتاينر التي زعمت ان صديق كافكا ماكس برود تلاعب في نصوص المحاكمة حيث أضاف عبارات وشطب أخرى. أول ما قرأت لكافكا قصة المسخ التي ذكرتني بفانتازيا ألف ليلة وليلة حيث يُمسخ فيها البشر الى قرود أو كلاب أو قطط. انه يعرض، في مناخ كابوسي خانق، حالة انسان عصرنا المطارد، المتهم، المكبل باليأس والهلع والحيرة. رافقني شبح كافكا عشرين عاماً داخل العاصمة التشيكية: في دروب مالاسترانا، ستاروناميستي، قلعة هراتشاني، هضبة بترشيني، شواطىء فلتافا، جسر كارلوف، حانة أوفليكو، فندق اوروبا، والمكان الأحب لدي: مقهى سلافيا، المقابل للمسرح الوطني. 2 - بيكيت صوموئيل بيكيت كافكا الروحي. عالج ذات المشكلة: اغتراب الانسان ووجوده الملتبس. بطله مقهور، ضائع، ومعزول كسمكة خرساء في حوض ضيّق. اجد في الصمت غير الاعتباطي، الملازم لمسرح بيكيت، وظيفة تشبه وظيفة الفراغ في منحوتات جياكوميتي. 3 - همنغواي قبل اكتشاف كافكا، قرأت همنغواي بعناية. قرأت بعض قصصه القصيرة أربعين مرة. استعنت بالقواميس لأقرأ بلغة انكليزية لم أكن احسنها: عجوز عند الجسر، المخيم الهندي، مكان نظيف وجيد الإضاءة، حياة فرنسيس ماكمبير القصيرة السعيدة... كنت أرغب بالتمعن في الجمل الأصلية كي أقف على أسرار تشذيبها من الزوائد والشحوم. حاول كتّاب كثيرون محاكاة تصرفه مع النص بموضوعية جراح، يقطع ما هو ضار وإن كان جميلاً... لعل هذا القطع شطباً وحذف ما لا يلزم اشق اركان الكتابة وأهمها. 4 - فولكنر عاتبني الصديق الراحل شريف الربيعي بالتلفون ذات يوم: - لماذا لا تكتب رواية؟ هذا العتاب عكس تصوراً، لا اتفق معه، يفيد ان القصة انجاز يسير، أو كما يشاع، اجازة استجمام للكاتب بين روايتين. وهي برأيي فن صعب ومستقل، كالرواية والقصيدة والمسرحية ومقالة النقد. انها تضطلع بما ليس من اختصاص تلك الأشكال الأدبية ولا ضمن قدراتها. الروائي الجيد ليس حتماً كاتب قصة جيد. هناك من يرى قصص همنغواي القصيرة اجدر من الطويلة باستثناء الشيخ والبحر التي حازت على جائزة نوبل. والشهادة الأطرف بهذا الخصوص للروائي الحائز على نوبل كذلك، وليم فولكنر: - ربما كل روائي يريد في البداية أن يكتب شعراً، ثم يكتشف انه عاجز، فيحاول كتابة القصة القصيرة التي هي الشكل الأكثر تطلباً بعد الشعر، وحين يفشل في ذلك أيضاً، يمضي أخيراً الى كتابة الرواية! لا أشك في أن كافكا عانى بنفس القدر في أثناء كتابة الروايات والقصص القصيرة جداً. ذلك يتضح من التردد في نشرها الى أن مات، وكذلك من مراسلاته مع الناشر حول نص نثري يتألف من مقاطع ضئيلة الحجم بعنوان تأملات: السيد روفولت المحترم. اعترض عليكم هذا النص النثري الصغير الذي رغبتم في الاطلاع عليه ... ففي الوقت الذي كنت أعده لهذا الغرض، كنت متأرجحاً بين حاجتي الى طمأنة احساسي بالمسؤولية وبين رغبتي الشديدة في أن يكون لي كتاب ضمن مجموعة كتبك الجميلة. ولم يكن في وسعي دائماً اتخاذ القرار الحاسم 4 آب أغسطس 1912** 5 - مارتا كانت الصديقة التشيكية مارتا ماركوفا، خريجة جامعة تشارلس، مختصة بأدب كافكا. كتبت عن وحي القلعة عشيقته ملنا يسينسكا. وقررت عام 1979 بيع كل ما تملك والفرار من البلاد أملاً في الفوز بحرية البحث والعيش. امضينا آخر يوم سوية في البيت بحضور منيرة، نضال، فاطمة... نشوي ونتحدث. لم أدون للأسف الأحاديث الشيقة عن كافكا. كنت أخشى الصدفة العمياء أو الوشاية. فقد تحدس السلطات نية الفرار فيُخبط ونُتهم نحن الشيوعيين بالتواطؤ مع النظام الاشتراكي، او مع ارق اعدائه: الحسناء مارتا ماركوفا... كان الجو ملبداً بروح كافكا. * كاتب عراقي مقيم في السويد ** ترجم الرسالة عن الألمانية نامق كامل ، "الحياة" 4 تموز يوليو 1993.