وصلت المفاوضات الفلسطينية - الاسرائىلية الى مرحلة حرجة جداً بالنسبة الى طرفيها المعنيين، كما بالنسبة الى الولاياتالمتحدة الاميركية التي ما زالت حائرة ومترددة ازاء الموقف الواجب اتخاذه لاخراج هذه العملية من الجمود المحيط بها. فالفلسطينيون وهم اكثر الاطراف تضرراً جراء الوضع الراهن باتوا أسيري عملية المفاوضات، فلا هم بقادرين على الخروج منها أو تجاوزها، ولا هم بالمرتاحين لبقائهم فيها، في اطار وضعها الراهن. اما اسرائىل فتبدو سيدة اللعبة، فهي التي تتحكم بقواعدها وبشروطها، وهي التي تقرر ما تعطيه وما لا تعطيه وكيفية ذلك" بحسب تقديرها لاوضاعها، وبما يتناسب مع مزاج رئيس حكومتها وائتلافه المتضارب الآراء. والسلطة الفلسطينية بوضعها الصعب المعقد هذا تكاد تكون محصورة في عنق زجاجة، حيث الضغوط تمارس عليها من كل الاتجاهات: من اسرائيل ومن الولاياتالمتحدة ومن اوضاعها الداخلية، في الوقت الذي تتصرف فيه حكومة نتانياهو بارتياح كامل" فالولاياتالمتحدة غير قادرة حتى الآن على تحويل الافكار التي تطرحها الى مبادرة رسمية، وهي بتفضيلها الاستمرار في دور "الوسيط النزيه"، على حد تعبير مسؤوليها!، إنما في الواقع تقدم التغطية المطلوبة لنتانياهو وحكومته للاستمرار على مواقفهم المتعنتة. اما المعارضة الاسرائيلية فضعيفة وهزيلة، فضلاً عن انها لا ترغب بخوض مواجهة جدية مع نتانياهو وحكومته في موضوع التسوية. والوضع العربي برغم الايجابيات الحاصلة ما زال دون المستوى اللازم لايجاد حالة من الضغط على اسرائيل بما يجبرها على تقديم الاستحقاقات المطلوبة منها. ازاء هذه الحال التي وصلتها عملية المفاوضات يجد الطرف الفلسطيني نفسه امام خيارين كلاهما مرّ: الاول يتمثل باستمرار الممانعة والاصرار على قيام اسرائيل بتنفيذ التعهدات التي التزمت بها في الاتفاقات الموقعة معها. اما الثاني فيتمثل في مجاراة الطروحات الاسرائىلية على طريقة "خذ وطالب" لوضع اسرائيل امام تنفيذ الاستحقاقات المطلوبة" وهذا الخيار يتضمن في حيثياته مخاطر جرّ السلطة الفلسطينية الى الفخ الاسرائىلي للاسباب التالية: اولاً- لا يمكن لاحد ان يضمن قيام حكومة نتانياهو بتنفيذ المرحلة الثانية من اعادة الانتشار، لان تنفيذ مثل هذه المرحلة رهن بمجموعة من الشروط، قد تعجز السلطة الفلسطينية عن الوفاء بها بحكم تعقيدات الوضع الفلسطيني، وبالنظر للمتوالية اللامتناهية من المطالب الاسرائىلية" كما أثبتت التجارب الماضية، هذا فضلاً عن ان هذه الشروط التعجيزية ما هي الا ذرائع واهية للتملص من الاتفاقات الموقعة. ثانياً- ان القبول بهذا الخيار يعني ان السلطة الفلسطينية قبلت من حيث المبدأ باعادة التفاوض مع حكومة نتانياهو على كل شيء، مما يجعل كل المكتسبات التي حققتها هذه السلطة قابلة للمراجعة. ثالثاً- تحاول حكومة نتانياهو من خلال شروطها الهاء السلطة الفلسطينية بقضايا اخرى غير الاستحقاقات المطلوبة من اسرائيل، واظهارها بمظهر العاجز عن تلبية الشروط الاسرائىلية بما يفيد في تحسين صورة اسرائيل الخارجية. رابعاً- ان الموافقة على هذا الخيار سيؤدي الى تضرر مكانة السلطة الفلسطينية وصدقيتها، فلسطينياً وعربياً، فهذه السلطة ستبدو وكأنها تفضّل المواجهة مع شعبها على مواجهة الاملاءات الاسرائيلية. لكل هذه الاسباب، فان السلطة الفلسطينية مطالبة برفض هذا الخيار المذل والمجحف الذي تحاول اسرائيل فرضه، بكل جبروتها وتعنتها. ويبدو الخيار الاول، برغم صعوباته وتعقيداته، الخيار الاكثر ملاءمة في الظروف الفلسطينية والعربية الراهنة، الامر الذي يفترض ضرورة الاستعداد جدياً لخوض مرحلة صراعية طويلة ومعقدة مع حكومة نتانياهو، حيث تدل المؤشرات بانها قد تستمر في السلطة حتى موعد الانتخابات الاسرائىلية المقبلة في العام 2000. وبالنظر الى ان موعد استكمال فترة الحكم الذاتي الانتقالي ستكون في ايار مايو 1999، فان السلطة الفلسطينية ستواجه هذا الاستحقاق في ظل حكومة نتانياهو، مما يعني احتمال خوض مواجهة سياسية وديبلوماسية وشعبية متعددة المستويات. إزاء كل ذلك، ونظراً لطبيعة وحساسيات الحالة الصراعية الآتية فان السلطة الفلسطينية معنية بمراجعة سياساتها وادارتها لاوضاعها واعادة ترتيب اوراقها بما يمكنها من مواجهة الاستحقاقات المقبلة. ولعل السلطة معنية بالاساس باعادة الاعتبار لمسألة الحوار الوطني الفلسطيني وتعزيز الوحدة الوطنية الفلسطينية، وتفعيل المشاركة الشعبية في اتخاذ القرارات المصيرية. ولكن مع اهمية وضرورة كل ما يمكن ان تفعله السلطة الفلسطينية لتطوير وتفعيل وتصويب ادائها داخلياً، فان للعمل على اعادة الاعتبار للبعد العربي للقضية الفلسطينية أهمية كبرى، وذلك للصمود في وجه الاملاءات الاسرائىلية ولمواجهة الاستحقاقات السياسية المقبلة. لقد شكل العامل الوطني الفلسطيني دوماً شرطاً لازماً لاحياء القضية الفلسطينية وللتعبير عن وجود الشعب الفلسطيني، ولكن لايجاد حل عادل لهذه القضية ولتحقيق اهداف هذا الشعب ينبغي ان يتحقق تضافر العامل الوطني - الفلسطيني مع العامل القومي - العربي" حيث يمكن ان يتحقق حينئذ الشرط الكافي المطلوب. وما أحوج الوضع الفلسطيني، الى هذا الوضع، وهذه المسألة مسؤولية فلسطينية اولاً ولكنها اساساً مسؤولية عربية بامتياز.