جميع اللُعب التي يبتكرها المحررون بين فترة وأخرى لانتزاع الاعترافات من الكتّاب، تسمح، عِبرَ العديد من الثقوب، بالتحايل والهرب من الضوء الحارق، أمّا رغبة "ملحق الشباب" الجديد، بدفع الإنسان إلى مخاطبة ذاته في فترة شبابه فهي أكثر اللُعب خطورة، لأننا نستطيع الكذب على القارئ، تحت هذا العذر أو ذاك، بأن نقدم له نصائح لا نقدر عليها، أو نغريه ببطولات لا نغامر بخوضها، أو نغضب ونحتدّ من أخطاء نرتكبها، خفيةً، كل يوم، لكن ما جدوى أن يلمّع الإنسان ذاته القديمة، أو يكذب عليها؟ وإذا أمكنه خداعها، هل يتغيّر الماضي، أم ينصلح الحاضر؟. حسناً، سوف أقبل هذه الوليمة، التي أعدها "ملحق الشباب" للإيقاع بالكبار والكشف عن علاقتهم بشبابهم، بأن أضع نفسي الحالية، أمام نفسي التي كانت عام 1962، ولنرَ ما يتمخّض عن ذلك من نتائج!. أولاً، كيف يمكنني فهم أحلامكَ وأفكاركَ الشابة وقتذاك، ويفصل بينا الآن أكثر من ثلاثة عقود من الزمن، ثلاثة أكوام هائلة من السنين والأشهر والأسابيع والأيام، بما فيها من أخطاء وصواب، فشل ونجاح، حزن وفرح، جفاف وعواطف مشبوبة، تحوّم فوق مجمل هذا الركام سحابة ثقيلة من الخيبات العامة؟. تقول إنكَ دفعتني إلى الأمام بتلك الأحلام والأفكار، جعلتَني أتعرف على بلدان وشعوب أخرى، أصادقُ نماذج مختلفة من البشر، أقطف تجاربَ كثيرة تمثل ذخيرة متميّزة لكل حالم، وأخيراً غدوتُ قاصاً تفلت مواضيعه من كل حدود! هراء، كل هذا هراء، إذ كل ما فعلتَه إنكَ دفعتني إلى مغامرة صعبة اسمها الحياة، حفرة قاسية لا ترحم الضعيف، وتهيئ للطيّبين كل أنواع الألم، وعلى رغم أنني لستُ بضعيف، ولا أضعُ نفسي في عداد الطيّبين، مع ذلك جاءت دفعتُكَ مخبولة وطائشة، بحيث قدمتُ الحساب عن الأثنين، من دون الاستفادة من منزلة أيٍ منهما!. أعترفُ بأنكَ كنتَ ضحية أعوام صعبة، تلفّع خلالها العجز والكذب والخداع بكل الأثواب الزاهية، لكنني أصبحتُ، من جراء ذلك أو من دونه، ضحيتَكَ أنتَ، فمن يعترف لي بهذا الآن؟. الشيء الوحيد الذي ما زال يربطني بك، هي تلك النظرات الحادة، نظرات الشباب المليئة بالتحدي، وبالعناد، التي تلاحقني بها، فأحسّها تخترق الزمن وتعبر القارات لتبرز أمامي، غاضبة ولائمة، تجعلني انهض من جديد كلما وقعتُ. عدا ذلك لن تفهم محني، ولن ألتزم بقية مطالبكَ، ولا كل أهوائكَ، فالذين في مثل سنكَ، حين يطلعون إلى الحياة ينظرون أمامهم بزخم هائل من الثقة، ويحاسبون الأجيال التي سبقتهم بقسوة، وهذا من حقكَ، لكن أنظر، أيها المراهق الغرّ، كيف يقف كل منا، الآن، على طرفي العمر، الماضي والحاضر، وعلي طرفي الحياة: أنتَ وأفكاركَ أصبحتَ قديماً، سوف يسخر منك الجيل الحالي إذا ظهرتَ عليه، وأنا لا أفهم من الجيل الحالي شيئاً، وهذه لعبة الزمن، التي لم تفكر بها من قبل، بينما تعلمتُها، أنا وجهُكَ الشائخ، بصعوبة مؤلمة! وكان عليك، يا وجهي القديم النَضِر، ويا روحي الشابة، أن تميّز، حين تأججّ في دواخلكَ الطموح واصطخبت الآمال، بين الممكن والمستحيل، بين مكان ومكان، بين مجتمع وآخر، إلاّ أن العناد ركبكَ في سن الثامنة عشرة، لتصرّ على أن أفكار جان جاك روسو، وشخصيات البير كامو، ومجانين ديوستويفسكي الذين يصارعون الشرّ في أعماقهم، هم الذين يسودون الحياة في نهاية المطاف، بل ويحكمون العالم، ورحتَ تعبّر عن قناعاتك الغبية هذه بسلوك ينفر من أجواء الكذب، والدجل، والضعف، كما يرفض الدراسة، وأجواء الأكاديمية، ومن يتهافتون على شهاداتها التي لن تغيّر من طبيعة الإنسان، ولا تحسّن، جوهرياً، أخلاقه، على رغم أنكَ، أيها المنافق الصغير، كنتَ تتوجه في أغلب الأيام إلى كلية الطب "في باب المعظم" لتتناول وجبة غداء كبيرة بمبلغ صغير، أو مجاناً، مضافاً إليها ساعتان من الأحاديث مع بعض طلبتها من الأصدقاء، وبدلاً من الاستقرار في وظيفة، أو عمل تتدرج فيه ويضمن لي، الآن، وضعاً مادياً مريحاً، كنتَ تقضي الساعات أمام واجهات المكتبات في شارع المتنبى، أو تطوف على مقاهي وشوارع بغداد، المدينة التي لم تكنّ لها أي احترام، لأن أهلها لا يختلفون، في غطرستهم، عن بقية مدن العراق، وجميعهم يشبهون، في خوائهم، رجال القش الذين وصفهم ت.س.إليوت لن ألومكَ على هذا، بعد أن حملني غرورك إلى روما ولندن، وبيروت من قبل، وبدلاً من الرضوخ إلى صوت المحن القاسي بعد وفاة والدك، والقبول بجزء من كعكعة الحياة التي قدمتها لك الفرص، جلست على مبعدة تسخر من كف الجوع الثقيلة التي تنحني لها الرؤوس، وهذا أيضاً هراء، ما زلتُ أدفع ثمنه، على رغم تواطئي الخفي مع وقعه النفسي، فما أنا، في نهاية الأمر، إلاّ شبحك المتعَب، لكن الذي ما زال مقيداًً بأفكارك، وفوضى أحلامك، وعذابك الأول في بحثكَ الطائش عن حنان خالص، وخير يفرد جناحيه فوق رؤوس البشر، من دون القبول بأن الخير يمكن تحقيقه، أيضاً، عِبرَ حياة هادئة، وتحصيل دراسي، وعائلة سعيدة تمثل، أخلاقياً، واحة صغيرة تؤثّر بمن حولها، غير أن طموحك إلى فتوحات كبيرة، ولا مفرّ من الاعتراف بالأنانية التي تحرك هذا النوع من الطموح، أفقركَ في سن مبكرة، كما أفقرني في سني الحالية، لكنه جعل منك عاشقاً كبيراً للحياة، وهذا، أقولها لك بصراحة، المكسب الوحيد الذي أتاني منكَ، ولعله، من دون أمل أن يصغي لي الجيل الحالي، أهمّ ما يحتاجه كل شاب، فمن غير عشق عميق للحياة، يصبح كل نجاح بلا طعم، وكل فشل، حتى الصغير والعابر، مُحبِطاً وذريعة للكسل والخمول اللذين يحوّلان الشاب إلى جثة، في عالم أساسه الحركة وقانونه التحوّل والتغيّر الدائمان، وقد بقيتُ وفياً لهبتِكَ الثمينة تلك تحت أقسى الظروف، وخلال كل السنين التي ما برحتْ تزيد الشقة في ما بيننا، في العمر وفي طريقة التفكير، العمر خاصةً، الذي لم تكن لتهتم بقيمته فرحتَ تبعثر السنين بلا حساب، بينما أنظر الآن إلى غروبها بحسرة، فهل يعلمكَ هذا شيئاً! وهل يفيدكَ، بعد كل شيء، أن تتعلم أن الأنانية والغرور اللذين كانا يوشوشان في أذنكَ من أن نزواتك أهم من أهلكَ وأصدقائكَ، جلبا لكَ في ما بعد الكثير من الألم الداخلي، وأن غرورك الذي كان يوحي لكَ بعدم وجود امرأة تستحق فيض حنانكَ، جعلك تفقد العديد من الشابات الطيبات، المحبات، والمخلصات، فتعاني فترات الوحدة والكبت، مخفياً جفاف أيامك بالمكابرة والادعاء، ثم تتوب عندما يشدّد عليك الحرمان الخناق، لكنكَ ما تلبث أن تنسى توبتك حالما يبتسم لك قلب جديد، يتفتح بالعاطفة والحبّ، ولم تهدك العثرات إلى أن الخير نفسه، الذي ملأتَ الأرض نواحاً وضجيجاً باسمه، يتزود من ذات النبع، أعني الحبّ، فعندما يحبّ الإنسان، يتفجر حبّه لكل الناس، وينظر بحنان إلى الجوانب الطيبة والسيئة في عاداتهم وسلوكم، وتكتسي نظرته إلى الحياة سعادة وحزناً هادئين، مبعثهما شعور جديد أساسه القناعة والصبر، وربما تجيبُ، وقد شبعتُ أوهاماًً من خطاباتكَ القديمة، أنْ ليس كل عاطفة تؤدي إلى حبّ الناس! وهذا أيضاً صحيح، لكن هل تريد مني، حقاً، تغيير كل العالم؟ هل ما زلتَ تفكر أنني، وقد طحنتني تجارب الحياة من كل جانب، المسؤول وحدي عن مصائر البشر؟ أعترفُ إنني أحبّ كل ما كان يحيط بمراهقتك وشبابك من أحلام جميلة، من آمال أضاءتها فوانيس الزيت أو مصابيح الكهرباء، لكن ألا يحق لي، وقد تحمّلتُ الكثير، فترةً من الهدوء والاكتفاء بحياة بسيطة وحبّ عذبٍ، أعوض بهما الخيبات والمتاعب التي كنتَ، بأفكارك المتمردة، وراء حصولها، من غير أن أنكر أنها ساعدتني على مقاومة إغراءات الشر،ّ التي جرفتْ أعداداً هائلة من الناس إلى متاريس العنف وتخوم الوحشية التي أفرزتها السياسة في تلك الفترة!. أقول لكَ، أيتها الذات الشابة التي كنتُها يوماً ما، يا مخاض ثمانية عشر عاماً من التفتّح والاندفاع والآمال، لقد شهدتُ متمردين كباراً تنطفئ شموعهم، وعاشقات يخنّ كلمة "أحبّك" من أجل حسابات صغيرة، ودولاً تنهار، ومجتمعات تُمزق، وناساً يتعذبون بلا سبب، وأطفالاً تبرز عظامهم من الجوع، وشعوباً تتحطم آمالها، وأحزاناً يتلوى لها الضمير ألماً، وخيبات مريرة، حتى لم يعد يدهشني أمر غريب في هذه الحياة، فلماذا تبقى عيناك تنظران بحنق وغضب، من داخلي، إلى ما يجري الآن أيضاً؟ أية قوة غامضة فيكِ يا سنوات الشباب لتستطيعي، حتى اليوم، إقلاق روحي المنهكة؟ ألا يمكن افتعال حالة من الشقاق، فصام مؤقت عن سطوتكِ وأثركِ السيء على خياراتي ومطالبي الأخيرة!. تقول لا! تقول سيظل صراخكَ القادم من بعيد يوجه أفكاري ويتحكم بسلوكي، ويهدّد حاجاتي المتواضعة! حسناً، هذا أيضاً جميل، مقبول ولن تقاومه النفس، التي تغدر بي كلما حاولتُ الهرب منكَ، لأنها تميل، بلا إرادة مني، إلى الأحلام الجميلة التي صاغتها سنوات الشباب، النبع الأوّل لأي خيار لاحق، لأية كلمة كتبتها في قصصي، لأية فكرة وردت في مسرحياتي، ولأي أمل تسعى وراءه رواياتي! روائي وكاتب مسرحي عراقي