يقع طلاب وطالبات الجامعة أحياناً ضحايا الظلم من بعض أساتذتهم. وظلم كهذا ليس بغريب في مجتمعاتنا، إذ تختزن ذاكرة بعضنا صورة بشعة لمعلم تفادينا ضرره في مرحلة من المراحل. المعلمون في المراحل التعليمية الأولية يخضعون لإشراف مباشر من إدارة المدرسة والمشرفين التربويين والإداريين، بحيث لا يحيدون عن الضوابط والقوانين التعليمية المعروفة للجميع لكن أستاذ الجامعة ليس كذلك. حسن الظن وإذا كانت غالبية أساتذة الجامعات عند حسن الظن، فإن هناك زمرة قليلة لا تفهم من منصب الأستاذ سوى التحكم برقاب الطلبة وتدمير مستقبلهم. وهم نوع من الأساتذة لا تخلو منه جامعة من الجامعات، ومع أنه قد يكون واحداً فقط في الكلية الواحدة إلا أنه يثير الرعب والهلع في المكان كله، سرعان ما يشم الطلاب والطالبات رائحته كما تشم الحيوانات الضعيفة رائحة السباع، فتراهم يحذرون بعضهم بعضاً من الالتحاق بالشعبة التي يدرسها ، كيف لا وهم يتذكرون ما فعله ذلك الأستاذ بالدفعة السابقة؟ لكن، بماذا يصف الطلبة استاذاً من هذا النوع؟ يكاد جميع من سألناهم يجمع على أنه شخص مريض نفسياً بل عقلياً، والأعراض واضحة في سلوكه الغريب: يسأل أحد أساتذة النحو طلاب شعبته في أول الفصل الدراسي عن الوقت المناسب لمحاضرته، ثم يقترح أن يكون بين الساعة 9 و10؟ ونظراً لأنهم جميعاً يعون أي نوع من البشر هو يجيبون بأن الموعد مناسب لهم، لكن الأستاذ الديموقراطي يرد عليهم بتهكم وتشف: أما أنا فلا يناسبني، وهكذا يقترح ساعات النهار كلها مكرراً رده الساخر، وليس هذا هدفه العبثي بل اصطياد لطالب تنفرج شفتاه عن ربع ابتسامة فقط ليقول له بثقة وبرود: خير لك ألا تحضر عندي بقية المحاضرات، فأنت راسب لا محالة، وهو لا يقول ما لا يفعل بل ينفذ تهديده وأزيد. مرة رن جرس النداء الآلي البيجر لأحد الطلاب الحاضرين عنده فأخرسه الطالب فوراً، لكن بعد أن سبق السيف العذل، وكانت النتيجة حرمانه من المحاضرات حتى آخر الفصل، أي الرسوب بسبب الغياب القسري. ومن يستمع إلى قصص جوره التي يرويها تلاميذه الذين رفضوا ذكر أسمائهم أو كتابة بعض مواقفهم المحزنة خوفاً من انتقامه ربما ظن أنها من مبالغات الطلاب المتحاملين عليه. ففي إحدى السنوات الماضية لم ينجح من جميع طلاب شعبته سوى اثنين فقط. وله في تدمير مستقبلهم أسلوب واحد يعرفه الجميع: يضع أسئلة لا يجيب عنها أحد. أما من يريد لهم النجاح فيحصلون على تقدير ممتاز فقط، إذ لا ينجح لديه أحد بتقدير جيد جداً ناهيك عن جيد أو مقبول. لم ينجح احد لكن، كيف لا ينجح أحد؟ وكيف لا يجيب على أسئلته أحد؟ يقول الطلاب "نحن نجيب عن الأسئلة بكل ما نعرف، لكن المشكلة معه ليست في صعوبة الأسئلة فقط بل في كثرتها والتباسها المقصود وطول الأجابة عن كل فقرة من فقرات السؤال، بحيث لا يكفي الوقت الرسمي للاختبار ساعتان للإجابة عن سؤال واحد منها". إذاً لماذا التحقتم بشعبته هذا الفصل؟ لأنه لا مفر من المرور عبر بوابته، يجيبون ويزيدون أنهم أجلوا تسجيل مادته في الفصول السابقة لعل الأمور تتحسن، لكنه الوحيد الذي يدرس هذه المادة، ولهذا "نحن متشائمون ولا نتوقع نجاحنا في مادته، لكن، ماذا نملك غير الصبر"؟ بهذا الشعور الذي يسمم حيوية أولئك الطلاب تنحط شخصية المعلم في بيت أحمد شوقي لتكون ".... كاد المعلم أن يكون عدواً" لم لا والطالب الجامعي الذي غالبا ما يكون أسير هموم شتى، يحسب السنوات المتبقية على تخرجه من الجامعة لينهض على قدميه ويحل مشاكله العائلية والاجتماعية والمادية فيتزوج و... و...، لا يجد من أستاذه إلا العمل على إفشاله دراسيا ومن ثم حياتياً، بقصد وإصرار يتغذيان على حقد ساذج، في حين لا يجد الطالب نصيراً في عمادة الكلية أوالجامعة، إذ الجميع يختصرون شكواه بتبرم قبل أن يكملها بأنه مذنب والأستاذ على حق . أما الأساتذة الآخرون فلو تعاطفوا معه لمعرفتهم بأخلاقه فهم لا يستطيعون التدخل في شؤون زميل لهم. المشكلة أن الأساتذة الجامعيين والمسؤولين في الجامعة مصرون على اتباع قاعدة لا تتفق دائما مع الواقع، تقضي بأن الحق هو بالضرورة في جانب الأستاذ، وأن الباطل هو بالضرورة من الطالب، وعليه فهذا الأخير مدان ولن يبحث في أدلة براءته ولو وجدت، هكذا، ومن غير تبرير أو تعليل. إجابة الطالب في الاختبار لا يمكن مراجعتها بعد تصحيح الأستاذ لها، ولو كان هناك بصيص أمل لمراجعتها فإن ذلك لا يكون إلا بعد تعهدات جائرة تؤخذ على الطالب بأن يفعل به كذا وكذا إن اتضح كذبه على الاستاذ، وغالباً لا يلقى لتظلم الطالب بال حتى يفوت الوقت وتصبح الأوراق في خبر كان. أما المبرر الممكن لهذا الانفلات فهو أنه لا يستطيع أحد وقف تظلم الطلاب من أساتذتهم لو فتح الباب لهم، وفي هذا إضرار بالأستاذ ومكانته، أما الطالب فليس له مكانة ولا يهم تضرره. تجربة شخصية قبل سنوات كان لكاتب هذه السطور زميل في المستوى الثالث في كلية الشريعة وأصول الدين، وكان أستاذ بدرجة أستاذ كرسي بروفيسور يدرسنا مادة أصول الفقه، ونظراً لصعوبة المادة واستغلاقها على الفهم كونها تعتمد على علم المنطق، كان الطلاب يحفظونها عن ظهر قلب، أما البروفيسور فلم يكمل أسبوعه الأول حتى بان للطلاب تصرفه الغريب، إذ كان يرفع صوته فوق صوت المهرجين حتى تنتهي المحاضرة ولا أحد يسمعه، وكان هذا مؤلماً لبعض المجدين من الطلاب. وقبيل اختبار الفصل الدراسي فجع ذلك الزميل الذي كان يعاني ظروفاً عائلية شاقة بوجود اسمه ضمن قوائم المحرومين من دخول الاختبار في مادة أصول الفقه، وأصر ذلك الاستاذ بأسلوبه المعتل على أن الزميل المحروم لم يحضر أيا من محاضراته طيلة الفصل، لهذا فكرنا نحن زملاءه في أن نثبت خطأ الأستاذ أمام المسؤولين في العمادة بأن نأتي لهم بدل الشاهدين بعشرين يؤكدون حضور الطالب وانتظامه، خصوصاً أننا كنا طلاب شريعة نعرف أن شهادة الشهود دليل يكفي للبت في أصعب القضايا، بيد أننا لم نجد منقذاً لزميلنا المسكين من الرسوب في المادة وما يعنيه ذلك بالنسبة لمعدله التراكمي، وأخيراً ترجانا الزميل نفسه أن نكف عن الاحتجاج خوفاً علينا في الفصول المقبلة من غضب ذلك الاستاذ الذي لا يمكن التنبؤ بما يفعل. أيامها كنا نتساءل عما يمكن أن يتعلمه طالب يمر بموقف كهذا: أيتعلم العدل أم الظلم؟ بعضنا قال إن الأمر جزء غير مقصود من التربية يتعلم منه الإنسان كيف يواجه الحياة ويتغلب بالصبر على عقبات لم يتوقعها. هناك الكثيرون ممن يعتبرون مشاكل من هذا النوع مبالغاً فيها، خصوصاً في تحميل أستاذ الجامعة مسؤوليتها وحده، لكن، حتى لو شارك الطلاب الأستاذ في مشكلة ما فإن هذا لا يبرر أن يحقد عليهم الأستاذ حقداً يصل حد إلحاق الضرر البالغ بهم، نظراً لأن الأستاذ لا يتوقع منه أن يكون بمثل أخلاق الطالب وسلوكه، كما أن عدم مساءلة الأستاذ ميزة لا تحصنه من ألا يكون ظالما، فضلا عن أن ضرر الطالب بالأستاذ عارض ومؤقت بخلاف ضرر الأستاذ بالطالب الذي هو دائم وجوهري. ثم ما هذه الأساليب التي يتبعها أساتذة الجامعة لإرهاب الطلبة وزعزعتهم حتى ينهاروا وينسحبوا من الدراسة في إحدى لحظات اليأس؟ هناك أستاذ يسرد الموضوع من دون توقف مطالبا في الوقت نفسه طلابه بكتابة كل ما يقول، "أين نجد موضوعات المقرر يادكتور، في أي مرجع أو كتاب؟" لكنه لا يرد . وهناك أستاذة تكلف طالبة في كلية الطب بعلاج إحدى المريضات كجزء من اختبارها لها، حتى إذا انتهت الطالبة من المهمة أمرتها الأستاذة بإعادة ما فعلت من جديد، ثم من جديد، حتى يجن جنون الطالبة بسبب هذا الأسلوب التعجيزي الذي لا تفهم مغزاه، مع أنها كانت تنال أعلى الدرجات من تلك الأستاذة. الحق يقال ان الأستاذة تلك كانت بارعة في تدريس تخصصها على خلاف السائد، لكن، تقول طالبة أخرى إنها تحرص كل الحرص على أن تبقى خارج اهتمام وانتباه تلك الأستاذة طوال المحاضرات، فلا تعرفها شخصياً كي لا تقع عرضة لتقلباتها المزاجية كما حدث مع زميلات كثيرات عرفت أسماءهن وملامحهن، ثم ما لبثن أن ارتكبن خطأ لا يعلمن ما هو ولا متى حدث؟ شيء من الغطرسة نذكر مشاكل طلاب وطالبات الطب كي ننفي تهمة الكسل والعبث والمشاكسة التي تذكر عادة لتبرير تذمر الطلاب من معلميهم، لأنهم أبعد ما يكونون عن تهم لا يجدون الوقت لممارستها، وإلا فمن عايشنا مآسيهم أو سمعناها منهم أكثر من أن يحصوا، جميعهم كانوا ضحية أستاذ متغطرس، لا يدرون أيتملقونه أم يتخفون عنه ليسلموا ، فما يغضبه غير معروف وما يرضيه غير متخيل وما يرجى منه شيء إلا خالفه، وهو، ليكون كذلك ،يحيط نفسه بغموض وهدوء دائمين، كأنه يتلذذ بالهلع الذي يراه على وجوه الطلبة، فيما حيرتهم في ما هو مقرر عليهم وما هو خارج عن المنهج قمة النشوة لديه. ومن يشهد سلوكه عن كثب أمام طلبته يكتشف بيسر أعراض أمراضه النفسية، حيث يحلو له أمامهم استعراض قوته وجبروته: "العام الماضي حرمت عشرة طلاب من الاختبار"، "عندما أريد لطالب أن يرسب فلا أحد يمكنه مساعدته حتى لو حفظ المنهج كله"، "الذي لا يقرأ المقرر في كتابي الموجود مصوراً في مكتبة كذا فلن ينجح في الاختبار". من ناحية أخرى يتميز سلوكه بالعناد والمكابرة والتذبذب، فهو يزداد إصراراً على العقاب كلما أكثر الطالب من الاعتذار الذي يريده ويستمتع به لكنه في الوقت نفسه يكرهه وينفر منه لأنه يجره إلى الصفح والمسامحة وهما يحرمانه متعة أخرى أهم من متعته بالاعتذار والتدليل، فالقسوة والبطش تجاه الشخص الضعيف تعلو على غيرها من المتع. خصوصاً أن شخصية هذا المتغطرس المتباهي بظلمه وقسوته تختلف حين يخرج من القاعة، إذ هو بين زملائه منخفض الرأس عديم الأهمية، فيما هو خارج الجامعة منبوذ من المجتمع ويمقته كل من تعامل معه، إما لسوء مباشر في سلوكه وإما لشخصيته المحدودة التي لا تمتع ولا تثير، ما يفضي به إلى التقوقع معنوياً داخل الجامعة حيث يجد من يؤثر فيهم تأثيراً يجعله الشخصية المهمة الوحيدة التي يحسب حسابها. طرائف لكنها مخيفة في إحدى كليات المعلمين يتناقل الطلاب طرائف مروعة لپ"ح.غ" الذي يدرس مادة أرشيفية لا تحتاج إلى معلم، ففي عام 1989 انسحب جميع تلاميذه بعدما لم يصبروا على عبثه في درجاتهم فحرمهم النجاح سنتين. ومرة وضع 5 درجات من 15 لطالب متفوق كان على وشك أن يكون معلماً لولا أنه انتهى إلى الطرد بعدما عجز عن الصمت أمام مايفعله ذلك الأرشيفي بزملائه وبه خصوصاً، فجهر أمامه بالاحتجاج وأعلن أنه لن يتعلم في كلية يدرس فيها أستاذ مثله وخرج من الكلية ولم يعد إليها أبداً. إن موقفاً كهذا يبين الفرق بين النظرة إلى أستاذ المراحل التعليمية السابقة والنظرة إلى أستاذ الجامعة، فهذا الأخير لا يقبل منه إدعاؤه دور الأب عندما يعاقب كما يقبل من الأول، حيث الطالب الجامعي رجل لا يحتاج إلى رعاية أب، فضلا عن أن شكوى استاذ الجامعة من طلابه وعقابه لهم يؤخذان على محمل الجد لأنهم طلبة كبار بخلاف طلاب التعليم الأولي الذين يعاملون بعدم المؤاخذة لصغر سنهم وبالتالي فالمعلم لا يعاقبهم في الصميم إلا نادراً. ومن ناحية أخرى لا يمكن للطالب الخلاص من أستاذ الجامعة بالانتقال إلى مدرسة أخرى لأن الكلية واحدة في المنطقة الواحدة وربما في البلد الواحد. وحين يترك طالب الجامعة الدراسة وهو قاب قوسين أو أو أدنى من قطف ثمارها بسبب ظلم استاذه له، فإنما يقوم بعمل انتحاري يدمر فيه نفسه قبل الآخرين. وهذا رد فعل لا يحدث جزافا كما يتعامى عنه المسؤولون في الجامعات. إن النظر إلى ما يكتسبه طلاب الجامعة وما ينطبع في نفوسهم من صور ضعفهم ربما يعيدون إنتاجها هو الأساس الذي ينبغي أن تقوم عليه العلاقة بين المعلم والطالب في أي مرحلة كانت. وما دام أن الطبيب يحاسب على خطئه الطبي مهما بلغت مكانته العلمية، كما يحاسب المهندس والقائد العسكري وكل من يخطئ، فلماذا لا يزال أستاذ الجامعة خارج الحساب والمساءلة على خطئه التربوي؟ نقول هذا ونحن نقصد الجانب العملي المطبق من المسألة، لا النظام الموجود فقط في كتيب لا يجد من ينفض الغبار عنه. نحن لا ينقصنا في العالم العربي شيء كما ينقصنا الإحساس بما يعانيه الآخرون والمسارعة بعلاج الخلل، مهما بلغت التفاصيل وتفاصيل التفاصيل.