صالة المندوبين في مقر الأممالمتحدة في نيويورك كانت ارضاً محتلة صباح الخميس، وحررناها بعد الظهر، فلم يأت صباح امس الجمعة حتى كان العدوان دحر وتشتت جنده في شوارع المدينة. كان مقرراً ان يلقي رئيس وزراء اسرائيل بنيامين نتانياهو خطابه ظهر الخميس، فلم ادخل الصالة الساعة العاشرة صباحاً، الا ووجدتها ملأى بجماعته ورجال الأمن، ووضعت لنفسي خطة تراجع تكتيكي، فصعدت الى الطابق الثاني من الصالة، وهو عبارة عن شرفة تطل على المكان كله، وجلست مع وزير خارجية سورية الاستاذ فاروق الشرع نراجع حساب الأرباح والخسائر العربية، ولم نجد ارباحاً. وجاء نتانياهو وجلس الى ركن تحتنا، وفكرت ان اسكب على رأسه فنجان قهوة في يدي، الا ان ثمنه كان دولارين وصلعة نتانياهو لا تساوي بنسين، أيام الغلاء، فشربت قهوتي مُرّة، او هكذا كان طعمها، وأنا ارى أنجس اهل الأرض تحتي حتى اكاد اشم رائحة سياسته الكريهة. ولم يخيب نتانياهو ظني، فقد القى خطاباً فاجراً مثله، حتى انه تحدث عن التجربتين النوويتين في الهند وباكستان، وهو يجلس على ترسانة نووية تهدد المنطقة كلها. ثم زعم انه يريد الانسحاب من لبنان الا ان الغريب ان اللبنانيين يرفضون مفاوضته على هذا العرض، وزاد ممثلاً فخرج عن النص وهو يشير الى المندوبين ويسألهم هل كانت بلادهم تنسحب لو كان امنها معرضاً للخطر كأمن اسرائيل. جلست بعد الظهر مع الاستاذ الشرع ووزير خارجية مصر الاستاذ عمرو موسى، نراجع نص الخطاب والخروج عن النص، وكان رأي الوزير المصري ان النص سم والخروج عنه زعاف. وهو كان عقد اجتماعاً في منتهى السوء مع نتانياهو في اليوم السابق، فجلس يعيد كتابة خطابه للرد على نتانياهو نقطة نقطة، وهو ما يجد القارئ في الصفحات السياسية، فلا حاجة لتكراره. مثل هذه الجلسة مع الوزيرين المصري والسوري يستحق عناء السفر الى نيويورك، وسأعود اليها غداً او بعد غد، الا انني اسجل الآن ان جماعة نتانياهو ورجال الأمن جلوا عن صالة المندوبين بعد الظهر واعتقدنا اننا حررناها، ثم فوجئنا بحركة التفاف مريبة فقد دخلت سارة نتانياهو الصالة فجأة مع ولديها كسائحة، وطافت بالمكان كأنها تملكه، الا انها عادت فانسحبت، ولم يأت صباح الجمعة، وخطاب الاستاذ عمرو موسى، حتى كانت الصالة ارضاً محررة. لم يكتف نتانياهو في اجتماعه مع الاستاذ عمرو ان يتهم مصر بمنع الفلسطينيين من الاتفاق مع اسرائيل، بل هو شكاه الى وزيرة الخارجية الاميركية مادلين اولبرايت التي نقلت عنه قوله ان الوزير المصري كان سلبياً للغاية معه. وقال لها الاستاذ عمرو ببساطة انه لم تكن هناك ايجابية واحدة في عرض نتانياهو، لذلك كانت الجلسة سلبية. انتقد الوزير المصري تركيز نتانياهو على كمية مجهولة، او مطاطة هي الأمن، وقال له انه يطالب بجمع سلاح الفلسطينيين ولكن لا يطالب بجمع سلاح المستوطنين، وهؤلاء يقتلون فلسطينيين من طلاب وغيرهم يوماً بعد يوم. ثم ان نتانياهو يلبس صديرية واقية من الرصاص خوفاً من المستوطنين، ويتوقع من الفلسطينيين ان يشعروا بأمن معهم. الوزيران المصري والسوري يريان ان الزعم ان اي اتفاق هو اتفاق جيد او افضل من لا اتفاق، غير صحيح، فالاتفاق الجيد وحده يقوم ويستمر، اما الاتفاق السيئ فكارثة للمستقبل. وسمعت اولبرايت هذا وأكثر منه، ولكن على من تقرأ مزاميرك، يا داود؟ هي الغت اجتماعاً مع 15 وزيراً اوروبياً لتجتمع مع نتانياهو، ثم طلبت من وزراء عرب ان يفاوضوها في واشنطن، فانتقل بعضهم الى هناك امس ليعودوا في المساء، او اليوم التالي، مع انني رأيتها ومعها دنيس روس ومارتن انديك وبقية اركانها تذهب الى نتانياهو في مقر اقامته في فندق يو. إن. بلازا، وتتناول معه السندويش، بدل الطعام الراقي الذي استوردته النمسا بصفتها رئيسة المجموعة الأوروبية والسندويش مع نتانياهو الذ طعماً عند الادارة الاميركية من مطبخ فيينا كله. وسار نتانياهو كالطاووس في اروقة الأممالمتحدة وشوارع نيويورك حيث شب. وهو لو بقي فيها لكان رئيس عصابة من المنحرفين الذين يسرقون الساعات من المارة، الا انه عاد الينا ليسرق الأرض بمن عليها. ومع ذلك فقد كانت للنهار نهاية جيدة، لأن رئيس وزراء لبنان السيد رفيق الحريري توقع كذب نتانياهو وفجوره، فأخر خطابه الى قرب نهاية جلسة بعد الظهر ليرد كما يجب. وعندما قلنا له ان نتانياهو خرج عن النص، قال ان هوايته الخروج عن النص، وهو فعل وسجلت له خارج النص: سمعنا اليوم كلاماً من رئيس وزراء اسرائيل يدعي ان اسرائيل ترغب في الانسحاب من لبنان، وان لبنان لا يريد مفاوضتها على الانسحاب. وهذا الكلام بعيد كل البعد عن الحقيقة. ان اسرائيل تحاول ان توحي بأنها تعمل للسلام فيما هي تعمل لضرب العملية السلمية واجهاض السلام. ان شروط اسرائيل للانسحاب وتنفيذ القرار 425 لا وجود لها في القرار. ولكن اسرائيل تتصرف وكأن هذا القرار يعطيها حقوقاً على لبنان، في حين انه يعطي لبنان حقوقاً على اسرائيل. هل من العقل ان تريد اسرائيل الانسحاب ونحن لا نقبل؟ انها لا تنفذ ما تعهدت به... وخرجنا مع الرئيس الحريري من الأممالمتحدة مساء الخميس. وقد تحرر المبنى تماماً من آثار نتانياهو، الا انه ذكرني بنفسه فوراً في الطريق، فهو يملك شوارع نيويورك، ووجدت موكباً له في اكثر من 40 سيارة، بينها سيارة اسعاف، ودعوت ان ينتهي في داخلها