السيد المحرر، تحية طيبة وبعد، لفت انتباهي استعمال كلمة "بلطجي" ومشتقاتها مثل "بلطجية" و"البلطجة" في مقالين نشرا في العدد 12970 في 7 أيلول سبتمبر لمحمد عوض بعنوان "الارهاب وغطرسة القوة"، وفي العدد 12976 13 أيلول لسعد الدين ابراهيم بعنوان "البلطجي الكبير... والبلطجية الصغار". تناول الكاتبان موضوعاً واحداً في المقالتين، في معرض التعليق على الحادثين المؤسفين في دار السلام تنزانيا ونيروبي كينيا، ثم رد الفعل الذي قامت به الولاياتالمتحدة بقصف مصنع الأدوية في الخرطوم ومعسكرات في شرق افغانستان، وراح ضحية هذه الحوادث عدد كبير من الأبرياء. وصف الكاتبان كل هذه الأحداث بأنها عمل "بلطجي" أو "بلطجة" من عمل "البلطجية". استعملا هذه المادة كمصطلح بدلالة تطلق على سلوك معين سواء صدر عن فرد أو دولة. وأريد أن أطلع القارئ على أصل هذه الكلمة وانتقال دلالتها من حال الى أخرى، كما ورد في مقال ابراهيم، فإن "البلطجة سلوك بعض الأفراد الأقوياء الذين يتعسفون ويبتزون الآخرين في أحيائهم من أجل الكسب المادي أو السيطرة المعنوية" وذلك حسب معناها الدارج في اللسان العربي في بعض الأحياء الشعبية بمصر. تتكون كلمة "بلطجي" من مقطعين هما "ب ل ط" وهو الجذر الثلاثي، و"جي" وهي لاحقة باللغة التركية بمعنى "ذو" أو "صاحب" دخلت العامية العربية وأصبحنا نسمع كلمات مثل "قهوجي" و"سفرجي" وما شاكلها. أما المقطع الأول "ب ل ط" فقد وجدت في قاموس "المنجد" تحت مادة "بلط: بلط - بلطاً وبلّط، أبلط الدار: بمعنى فرشها بالبلاط. أبلط اللص الرجلَ، بمعنى سلبه كل مالهِ وتركه على الغبراء. بَالَطَ وتَبالَطَ القوم أي: تحاربوا بالسيوف. البلطة: وهي ضرب من الفؤوس كلمة مأخوذة من اللغة التركية. والبلطجي: تعني باللغة التركية من يسير مع العسكر لأجل تسهيل الطريق بقطع الأشجار واقامة الحصون". يلاحظ هنا تقارب معنى الجذر العربي الثلاثي "بلط/ بالط" الذي يحمل من ضمن معانيه معاني تدل على العنف مثل السلب والضرب بالسيوف والمعاني التي تحمله الكلمتان "البلطة" أداة القطع و"البلطجي" الشخص الذي يقطع الأشجار. قد يقول قائل ان "البلطة" التركية قد تكون مستعارة أصلاً من الجذر العربي "بلط" نظراً لتقارب القوم وتأثرهم بالعربية إلا أنه لا دليل على مثل هذا الافتراض. فالأمر يحتاج الى بحث في قواميس اللغة التركية. إذن، كلمة "بلطجي" بالتركية لا تعني أكثر من الرجل الذي يقطع الأشجار. أما في العامية العربية فقد اكتسبت معنى مغايراً، كما أشار بذلك سعد الدين في مقالته. هنا أيضاً نلاحظ ترسخ الكلمة بخضوعها لنظام الصرف العربي فدخلت كجذر رباعي هو "ب ل ط ج" على وزن "ف ع ل ل" له دلالة خاصة، فجاز الاشتقاق منه كلمات مثل "بلطجة" لتدل على السلوك و"بلطجيّة" وهم من يتصفون بهذا السلوك. أخيراً، كما لاحظنا، توسع استخدام المصطلح وأصبح مجازياً يطلق على أي سلوك أو تصرف سياسي أو عسكري يتجاوز القيم والعقلانية ويتصف بالعنف والتهور والاستهتار أو القوة المتغطرسة. بقي أن نعرف كيف حصل هذا التنقل الدلالي من المعنى الأصلي في اللغة التركية حتى استقر عند الاستخدام المجازي العربي الأخير. يمكن للشخص أن يتصور "البلطجي" التركي، أي صاحب البلطة، الذي يقطع الأشجار أمام الجند بطريقة لا تخلو من العنف التي ربما لم تفرّق بين الأشجار التي تعيق السير وتلك التي لا تشكل أي إعاقة لتحرك الجند بل ربما كانت من الأشجار النافعة للانسان. ربما كانت تأدية العمل على هذا الشكل أقامت دلالة سلبية لكلمة "بلطجي" لا تحتملها في معناها الأصلي بالتركية. ثم صار للكلمة دلالة عربية جديدة بعد أن هضمت صرفياً. الآن أصبح الجذر الرباعي "بَلْطَجَ" يدل على التصرف الغاشم العشوائي العنيف الذي لا يعير وزناً للقيم ولا للعواقب والذي يتسم بالاستهتار والتعدي على الغير. ربما أيضاً احتمل الجذر معنى استخدام القوة بطريقة رعناء غبية. والنتيجة إذن، جواز من الناحية اللغوية استخدام هذا الجذر الرباعي واشتقاقاته كمصطلح علمي يطلق على سلوك يصدر عن فرد أو جماعة أو دولة شبيه بما يقوم به "البلطجية" كما تم شرحه في المقالين. إن ما يثير الحيرة في هذا السياق هو أن كلاً من الجماعات التي تقوم ب "البلطجة" والدولة العظمى التي تقوم ب "البلطجة" المضادة يدّعي انه ينطلق من مبررات مقبولة أخلاقياً، مثل الادعاء بوجود قضايا أو ظلامات أو احتجاجات أو ربما للفت انتباه الرأي العام الى قضية معينة أو ربما القيام بعمل دفاعي وقائي مشروع. أما "البلطجي" الشعبي فلم يجرؤ على الادعاء بأنه صاحب قضية، بل ربما برر تصرفه المشين بقوته وقدرته على انتهاك حقوق الآخرين وكذلك خنوع البعض واستسلامهم لهذا الأمر، الى ضعف أو انعدام الضوابط التي تحكم المجتمع. لعل هذا في واقع الحال ما أضمره "البلطجي" الكبير و"البلطجية" الصغار في نواياهم وأظهرته أعمالهم، على رأي الأستاذين ابراهيم وعوض. بقي كلمة أخيرة في هذا الموضوع وهو ما نادى به عالم اللغة الأميركي المشهور ناعوم تشومسكي، من أن دراسة اللغة تشكل مدخلاً مهماً ربما الوحيد، في سبيل فهم العمليات التي يقوم به العقل/ الدماغ البشري